كنت أسير في شارع الجلاء بجوار السفارة الإيطالية, فلمحت أمامي شابا باهر الطلعة وسيم الهيئة في أوائل العشرينات من عمره, يندفع في الطريق بأقدام ثابتة تمتلئ بالثقة. تطلعت لملامحه فأصابتني رجفة من الحزن والألم فقد كانت جبهته بها عدة تعرجات وإصابات واضحة, وتأملت عينه اليمني فوجدتها شبه مغلقة, فتأكدت أن الشاب قد أصيب بخرطوش دمر جبينه وأطاح بعينه, وقبل التفكير في سر هذه الإصابة البشعة, جاءني الرد من عصابة علي رأسه أعلي جبهته, تحمل علم مصر وعليه عبارة( ثورة25 يناير تحيا مصر) وأدركت أن هذا الشاب المسكين هو أحد مصابي الثورة, فأشفقت عليه. وبعد ابتعاده, وجدت نفسي لا إراديا أفكر في سؤال واحد, ماذا فعلنا لهؤلاء الضحايا من مصابي الثورة؟! فهذا الشاب رغم قوة خطواته, إلا أن ملابسه المتواضعة, تكشف أنه يعيش علي هامش الحياة!! وتذكرت رسولنا الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما تحدث عن طلحة بن عبيد الله, الذي دافع عن الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة أحد, حتي أصيب بأكثر من عشرين جرحا, مما جعل الرسول يعبر عن تقديره له, فقال: من سره أن ينظر إلي شهيد يمشي علي وجه الأرض, فلينظر إلي طلحة بن عبيد الله. وتذكرت بأسي الشاب الذي مر أمامي للتو, وسرت في داخلي موجة من الفخر به, فقد أيقنت أنني رأيت شهيدا يمشي علي الأرض, وعاد السؤال يلح علي ماذا فعلنا لهؤلاء المصابين هؤلاء الشهداء الذين يعيشون بيننا?.. للأسف لم نفعل شيئا. فرغم أن جراحهم عالجت جراحنا, ودموعهم جففت دموعنا!! فلم يكن منا إلا أن أدرنا لهم ظهورنا, وتركناهم وحدهم في أحزانهم, دون مواساة, بل شرعنا في محاسبتهم وكأنهم متهمون يجب معاقبتهم, حيث طالبناهم في جفاء بالمستندات التي تثبت أنهم من مصابي الثورة, وكأنه لا يكفينا دليلا عيونهم التي ضاعت ولا سيقانهم التي طارت, ثم تزيد المأساة برفض بعض المستشفيات منحهم أي شهادات طبية سواء بالاصابة أو لأهل الشهداء باستشهاد ذويهم!! وكأن هناك اتفاقا ضمنيا بتعذيب الجميع, رغم استحقاقهم أن نضعهم فوق رؤوسنا لا تحت أقدامنا, وأن نجعل عيوننا تبصر لتضيء لهم الطريق, وأقدامنا تشقي لتوفر لهم رغد الحياة, ولكننا للأسف أوصلناهم إلي مصير محبط, فالذين يعالجون في قصر العيني الجديد تسوء حالتهم يوما بعد آخر, رغم التعهدات بعلاجهم علي نفقة الدولة, فالوعود ليست أكثر من شو إعلامي, أشعر وكأننا نحن من فقد العيون, لأننا لا نري أوجاع هؤلاء, أشعر أننا من أصيبوا بالشلل, لأننا لا نستطيع التحرك حتي الآن لتلبية احتياجاتهم, أشعر أننا أكثر منهم عجزا, لأنهم فقدوا الحواس الخارجية بينما نحن للأسف فقدنا ما هو أخطر وأهم بكثير, فقدنا الحواس الداخلية من شعور وإحساس, أننا نتشاجر ونملأ الدنيا صخبا في مناقشة الدستور وخلافه, ولم نفكر لحظة واحدة أن المصابين والشهداء هم الذين منحونا الفرصة أصلا لكتابة دستور جديد لبلادنا. هؤلاء تقدموا للدفاع عن حق مصر الشرعي في الثورة والتغيير, ولم يفكروا لحظة واحدة عندما حان وقت التضحية, ولكن نحن الآن نفكر ونتردد ألف مرة قبل أن نقدم لهم يد المساعدة. لقد ضحي هؤلاء بأغلي ما في أجسادهم, وعندما أنتظروا اليد التي تمتد لتحنوا عليهم وتخفف آلامهم, فوجئوا بقبضة حديدية تعصف بهم. أشعر أن قلوبنا قد تحجرت ومشاعرنا قد تجمدت ولم يعد لدينا بارقة من الإنسانية والرحمة لأننا لم نحسم بعد قضية إنقاذ هؤلاء الضحايا من مصابي الثورة, ولا أملك إلا أن أقول ألا توجد يد حانية من مسئولي هذا الوطن يمكن أن تمتد لتعطف عليهم وترعاهم, ولو حتي لأجل خاطر رسولنا الحبيب سيدنا محمد. المزيد من مقالات د. عبدالغفار رشدى