هشام علوان : ما الذي جعلك تتذكر ألبومك القديم, تسحبه من صندوق كرتوني مهترئ, كنت تحرص علي حفظ أوراقك المهمة فيه, ينفض الغبار الكثيف المتكون عبر سنوات طويلة من فوق غلافه البلاستيكي, لتزهر أمام عينيك وردة زرقاء, تبدو لامعة, و يانعة, وسط غابة من الزهور الباهتة الألوان, كأنك ربيع يعيد إليها نضارتها, و يكسوها بخضار الحياة. تقلب صفحاته, و تتوقف لتنظر, و تتذكر ذلك الطفل الصغير بملامحه المنمنمة, و براءة عينيه الفطريتين, و ابتسامة ماكرة و شقية لعدسة المصور, الذي ربما كابد الأمرين كي يظفر بها. صورة أخري لولد صغير, تحمله مربيته الجميلة, بملامحها الريفية الطيبة, و دون أي مستحضرات للتجميل, تبدو بضفيرتها السوداء الطويلة, مثل كلوديا كاردينالي في فيلم( المحترفون), فلاحة مكسيكية طازجة, لم تفسدها الموضة الحديثة, نموذج لجمال ظل قابعا دائما في ذاكرتك الغضة, قبل أن تصيبها الحياة بالوهن. الذكريات اختزلتها السنوات في مجموعة من الصور, لحظات توقف فيها الزمن, لكننا توغلنا في العمر, دون أن ننتبه لذلك, ربما استوقفتنا بعض الشعيرات البيضاء, التي اقتنصتها أعيننا, و كشفتها لنا المرآة ذات مساء, لنطلق زفرة قوية تحمل ألم السنين الماضية. تبتسم لصورة الولد الصغير, الواقف في أول الصف من ناحية اليمين, بشعره الناعم الفاحم السواد, و نظارته الطبية السميكة, كان أهم ما يميزه عنا, هو المعطف الأبيض النظيف, الهلال الأحمر المرسوم علي صدره جهة اليمين, حين تسأله عن سر ردائه, يجيبك بكل فخر: - جماعة الصحة المدرسية. كان صبحي( و هذا اسمه), يبدو لك غريبا, و لافتا للانتباه, و هو متفوق جدا لا سيما في الحساب, و يحرص علي تغليف كتبه, و كراساته بألوان السوليفان الجذابة, و المميزة في ذلك الوقت, يفتح حقيبته السمسونايت الفارهة, في حركة استعراضية, متعمدا جذب أنظارنا إليه, ليخرج فاكهة و حلوي يلتهمها في نهم, دون أن يعزم علينا. و كان مقربا جدا من المعلمات, خاصة( مس ليلي) الزائرة الصحية, التي تصحبه في فترة الاستراحة كل يوم, و تشمله برعايتها, بينما لا تعير أي واحد منا اهتماما. ناهيك عن تدليل( مس سعاد) أجمل معلمة رأتها عيناي لذلك البدين جعلني أحقد عليه شخصيا, حين تجعله دون سائر التلاميذ, يعزف كل صباح علي آلة الأكورديون, موسيقا السلام الوطني. حتي( مستر سامي) الغتت, الذي لا يبتسم أبدا, جعل صبحي رئيسا علي ( الفصل), يقف في غياب المعلمين, ليكتب أسماء التلاميذ المشاغبين علي السبورة, حتي يعاقبوا, و يرتدع الذي يفكر مثلي في الضجيج فيسكت رغما عنه لا أدري ما الذي جعلني يومها أضحك فجأة و بهستيرية, حاول صبحي أن يمنعني, لكنه لم يستطع, فكتب اسمي بخط النسخ العريض, و من سوء حظي أن تكون الحصة القادمة, ل( مستر سامي), الذي أمرني بالوقوف, و فتح يدي, و انهال عليها بالمسطرة الخشب الكبيرة, عشرين مرة في صعود و هبوط متتاليين, و بكيت من الوجع, و قررت الانتقام من صبحي( دلوعة) المدرسة. في الصباح تربصت له أمام بوابة المدرسة, كي أنفرد به, و أضربه, لكنه لم يأت, و مرت أيام عديدة, تمنيت فيها أن أركل مؤخرته بقدمي, و أسقطه أرضا لألوث معطفه الأبيض, و لكنه استمر في الغياب. مرت أيام كثيرة, نسيت فيها ثأري القديم, حتي جاء يوم, و نحن في طابور الصباح, أمسك( مستر سامي) بالميكروفون, و هو يأمرنا أن ننتبه, و نقف في صمت, و احترام, دقيقة واحدة علي روح زميلنا صبحي.