من المخجل تقزيم الاحتفالات السنوية بذكري حرب أكتوبر المجيدة في مجرد إعادة إذاعة الأغاني الوطنية, أو سرد وقائع البطولة والفداء والنصر علي الأعداء, فكتب التاريخ سجلت, وصفحات الصحف سطرت, وأفلام السينما أبدعت بما فيه الكفاية, وإن كنا لم نر أعمالا فنية حتي الآن ترقي إلي مستوي هذا الحدث الأهم في تاريخنا المعاصر. ومن المؤكد أننا سوف نظل نفخر بهذا النصر العظيم ما دامت هناك حياة, وسنظل ننظر إلي صانعي هذا الحدث علي أنهم فخر مصر وعزتها. كما سنظل نؤكد أن مصر التي أنجبت هؤلاء الأبطال قادرة علي إنجاب المزيد, ليس في مجال العسكرية فقط, بل علي كل المستويات العلمية والثقافية والفنية, وإلا لما كانت مصر أم الدنيا, وإلا لما كانت المحروسة, وإلا لما كان أبناؤها خير أجناد الأرض. فبعد مرور 39 عاما علي هذا النصر, أو هذه الحرب, من المهم أن ندرك أنها قد تحولت من مجرد ذكري إلي درس أو رسالة للأجيال المتعاقبة, التي لم تشهد أو تشارك في هذه الملحمة, يستلهمون منها روح العمل والتضحية والإرادة وحب الوطن, خاصة في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا, والتي كان يجب أن نلتف خلالها نحو هدف واحد هو البناء. فنحن أحوج ما نكون الآن إلي استلهام روح نصر 6 أكتوبر 1973 ليكون نبراسا لثورة 25 يناير 2011 وما بعدها, وذلك بأن يكون الشعب يدا واحدة تبني وتعمل وتنتج حتي تعي الأجيال المقبلة هي الأخري أن جيل25 يناير ليس أقل مما سبقه, فلا يعقل أبدا أن تتوقف ثورة ما عند إزاحة نظام أو رأس نظام بتكلفة باهظة من دماء طاهرة سالت, وأرواح غاليه أزهقت وإلا أصبح الثمن غالية والمقابل هشا, كما لم يعد مقبولا أن تظل الفرقة والمزايدات عنوانا لمرحلة ما بعد الثورة وإلا فإننا لم نكن لنستحق, كما لم يعد من الممكن القبول بحالة الفوضي والانفلات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي الاستقرار والأمن والأمان, وإلا فإننا أمام شعب آخر غير شعب مصر. فقد أكدت بيانات الأحداث التي واكبت حرب أكتوبر أن مصر لم تشهد أيه حالات سرقة أو اعتداء علي أملاك الغير طوال فترة الحرب, كما أكدت أيضا أن الوحدة الوطنية كانت في أزهي صورها, والقوي السياسية كانت في أرقي ممارستها, واللحمة الشعبية كانت نموذجا رائعا في وقت كان الشعب يعاني فيه شظفا في العيش, وانخفاضا حادا في الدخل, وضيقا في كل آفاق الحياة لم يسبق له مثيل, حيث إن ست سنوات بين الهزيمة والنصر كانت كفيلة بتدمير كل مقومات المجتمع, خاصة النفسية منها, إلا أن شعبا أراد بل أصر علي ألا ينكسر, قاوم كل هذه التحديات, ولم تخرج تظاهرة فئوية واحدة أو حالة احتجاج من نوع ما, إدراكا لأهمية العمل والإنتاج في تلك المرحلة, وقد أسهمت وسائل الإعلام في ذلك التوقيت إسهام فعالا في تحقيق هذا الهدف, حيث قامت بدورها علي أكمل وجه علي الرغم من إمكاناتها الضئيلة آنذاك. أما الآن.. وقد اختلطت الأوراق, فأصبحت بعض القوي السياسية حسب تصريح صدر أخيرا عن وزير الداخلية هي التي تغذي روح العداء للحكومة, وهي التي تتكفل بالتحريض علي الاضرابات والاحتجاجات, وهي التي تدعم الاعتصامات وقطع الطرق, أضف إلي ذلك أنه قد أصبح بين وسائل الإعلام أيضا من يدعم بطريق مباشر أو غير مباشر هذه المظاهر, وأصبحت بعض الصحف والفضائيات بوقا لهذه الظواهر الغريبة علي مجتمعنا بدعاوي الحرية والديمقراطية التي بدا واضحا أنها تستخدم في غير إطارها الطبيعي, وهو أمر إن استمر فسوف يأتي اليوم الذي يلعن فيه الشعب كل هذه المزايدات علي اعتبار أنها مجرد مهاترات لم يجن من ورائها سوي الفوضي والقلق والأزمات الاجتماعية والأمنية, وأيضا النفسية, في ظل غياب ما يشير إلي بوادر مستقبل أفضل. هي إذن رسالة جيل أكتوبر 1973 إلي شباب يناير 2011 التي تؤكد أن روح العمل والعمل فقط يجب أن تدب في المجتمع, خاصة في هذه المرحلة, إلا أن ذلك يجب أن يتزامن بالتأكيد مع دور واضح للدولة في الضرب بيد من حديد علي رؤوس الفساد, ومواجهة فعالة مع الجشع والاحتكار واستغلال النفوذ, ووضع خطة محددة للقضاء علي البيروقراطية والسلبية وسوء الإدارة, ولن يتأتي ذلك إلا من خلال حكومة حازمة, وقرارات حاسمة تضع المصلحة العليا للدولة فوق أي اعتبار, دون النظر إلي التهديدات الممقوتة, وصيحات الابتزاز التي تتعالي مع كل إجراء رسمي يستهدف المصلحة العامة, مما غل من يد السلطة الرسمية حيال التعامل مع أي من قضايانا اليومية, وهو الأمر الذي أحجمت معه الكفاءات في مجالات متعددة عن تقلد مناصب مهمة أو رفيعة المستوي. فقد بدا واضحا.. أننا لم نستوعب رسالة أكتوبر التي قامت أساسا علي التخطيط السليم, والعزيمة القوية, والإيمان بالله, كما بدا أننا لم ندرك أهمية الالتفاف حول مشروع وطني للنهوض من العثرة, أو أهمية العمل كقيمة إنسانية نبيلة, وها هم قادة تلك المرحلة مازالوا علي قيد الحياة كان يجب الاستفادة بخبراتهم في هذا الدرس التاريخي الذي استفادت منه قوي عظمي, سواء في الأكاديميات العسكرية أو العلمية, يتعلمه طلابها وينهل منه أساتذتها, في الوقت الذي أصبحنا فيه وطنا طاردا لأبنائه, بعد أن كان مصدر إلهام للنابغين منهم, جاذبا للآخرين الباحثين عن الجغرافيا الفاتنة والتاريخ العريق, إلا أن المارقين من أبناء الرايات السوداء أبوا إلا أن تكون سمعة الوطن لدي الأوطان الأخري حالة من الفوضي والقلق والاضطرابات. ومن هنا.. فقد أصبحت الحاجة ملحة الآن إلي ذلك المشروع القومي اقتصاديا كان أو تعليميا أو صحيا أو علميا, وهو الأمر الذي يضع المجتمع بكل فئاته وطوائفه أمام اختبار حقيقي يتمحور في النهاية حول العمل والإنتاج, ولئن كان جيل أكتوبر قد ضحي بحياته ودمائه فداء لهذا الوطن, فأولي بجيل25 يناير أن يبذل من جهده وعرقه من أجل رفعته, ولئن كان جيل أكتوبر قد أثبت للعالم أنه يستحق التحية والإكبار, فالأحري بهذا الجيل أن يسطر في سجلات التنمية والتطور ما يؤكد أنه جيل يستحق الإشادة, أما إذا كنا سوف نظل نفاخر بماضي الأجداد أحيانا, وما حققه الأباء أحيانا أخري دون إنجاز حقيقي لنا نحن علي أرض الواقع فأولي بنا أن نتواري إلي غير رجعة, وأن نصمت حتي يحين الأجل المحتوم. مطلوب إذن من وسائل الإعلام القيام بدورها في هذا الشأن, وذلك ببث روح العمل والتفاؤل, كما هو الحال مع القوي السياسية التي يجب أن تعلي من شأن الوحدة والعمل الجماعي بدلا من الفرقة والتشتت, في الوقت الذي نعيد فيه تأكيد الدعوة الي إعادة النظر في مناهجنا الدراسية, بما يتناسب مع أوضاع المجتمع الآن, والتي تتطلب بالدرجة الأولي ترسيخ قيم الإنتاج والنهوض بالبلاد, وذلك بعد أن أصبحنا رهنا للفوضي واللامبالاة التي ألقت بظلالها علي المجتمع ككل, في ظل سلبية النخبة التي كل ما يعنيها هو الحصول علي قطعة من الكيكة دون مشاركة حقيقية أو فعالة في البحث عن حلول لمشكلات المواطن المقهور, والتي تتفاقم يوما بعد يوم, ليس من خلال ارتفاع الأسعار والانفلات الأمني فقط, وإنما في أوساط العشوائيات والمشردين وأطفال الشوارع الذين أصبح استخدامهم واضحا بالإيجار في تحقيق مآرب سياسية من خلال المظاهرات والاحتجاجات, وإلقاء الحجارة علي قوات الأمن, وإغلاق الطرق, بل الخطف وطلب الفدية. لتكن إذن روح أكتوبر هي الشعلة التي ننطلق منها إلي نهضة حقيقية في مجتمع عاني كثيرا في الماضي, وترهل كثيرا في الحاضر, وسط نوازع شر داخلية, ومؤامرات إقليمية ودولية, ولنجعل من أكتوبر رسالة إلي كل الذين لم تسعفهم ظروفهم أن يتعلموا شيئا عن الإرادة, وتحديد الهدف, وأهمية تحقيقه, وليكن أكتوبر محور برامجنا التنموية, وشعار خطتنا المستقبلية, ليس في هذه المرحلة فقط, بل للأجيال المتعاقبة, ولنجعل من الانضباط العسكري سلوكا في حياتنا المدنية بتحقيق مبدأ الثواب والعقاب في مؤسسات الدولة المختلفة, بعد شهور طويلة من الانفلات والاهتراء, بعد أن بدا واضحا أنه لا يمكن تقويمها بغير هذا النوع من الحسم الاستثنائي, وإلا فإننا نسير إلي هاوية من الصعب السيطرة عليها في المستقبل. ولنكن منصفين عندما نعترف بأن رسالة أكتوبر هي التي وقفت وراء نجاح ثورة يناير, وذلك حين تحملت قواتنا المسلحة المسئولية منذ إعلانها في بيانها الأول أنها تعترف, بل تؤيد مطالب الشعب المشروعة, وحين أعلنت أن رصاص الجيش لا يمكن أن يوجه إلي صدور المدنيين من أبناء الشعب, وحين أكدت بممارساتها أنها تحمي الثورة من المتربصين بها داخليا وخارجيا, وحين تحملت وقاحة الغوغاء الذين أرادوا الوقيعة بين الجيش والشعب, وإلا كان البديل لكل ذلك هو الوقوع في هذه الفخاخ, والنتيجة الطبيعية, حينذاك, هي أن مصر كانت ستتحول إلي سوريا أخري, أو يمن آخر, إلا أن من رحمة الله بشعب مصر أن القادة العسكريين الذين سطروا روح ورسالة أكتوبر في جبهة القتال هم الذين ترجموا هذه الرسالة في شوارع المحروسة إلي واقع حي خلال ثورة يناير. ثم جاء الدور علي السلطة المدنية الآن لتثبت أنها علي مستوي المسئولية, ولتثبت أننا شعب يستحق أن يحكم نفسه بنفسه, ولتؤكد من خلال الممارسة الفعلية أن عقودا عديدة مضت من تاريخ مصر كانت سرابا, وذلك من خلال إنجاز حقيقي ينتظره الشعب علي أرض الواقع, وإذا كانت الأيام المائة لم تكن كافية لتحقيق الجزء الأولي بالاهتمام, نظرا لحالة الانفلات التي حالت دون ذلك, فسوف نصبر مائة يوم أخري, بل مائتين, إلا أن للصبر حدودا, كما أن للمسئولية تبعات, وإذا كان أيضا من حق الشعب أن يري إنجازات, فمن حق المسئولين علينا أن نوجد لهم الجو الملائم لتحقيق هذه الإنجازات, وهو الأمر الذي يجعلها مسئولية مشتركة لا يزايد فيها طرف علي الآخر, وهذه هي رسالة أكتوبر التي أشرنا إليها في البداية. علي أي حال.. فإن تاريح أمتنا يزخر بإنجازات مبهرة, وبطولات نادرة, إلا أن حرب أكتوبر سوف تظل محور الارتكاز في التاريخ الحديث, لما خلفته من آثار نفسية علي محيطنا الإقليمي والدولي, ولما أفرزته من آثار نفسية إيجابية, ليس علي شعبنا فقط, وإنما علي محيطنا العربي ككل, وهو الأمر الذي يجعل من دروس أكتوبر رسالة إلي كل ميادين حياتنا الاجتماعية والسياسية, والخطأ الجسيم هو أن تمر هذه الذكري دون الاستفادة من دروسها, والخطأ الجسيم هو أن نري أنها عسكرية فقط, والخطأ الجسيم هو ألا نستفيد من خبرات من كانوا طرفا أصيلا فيها, والبديل هو أن نظل نلهث وراء خبرات الآخرين ودروسهم, والتي كانت نتيجتها ما نحن فيه الآن من تخلف وتشتت وهوان. المزيد من مقالات عبد الناصر سلامة