يحظي إعداد دستور جديد في أي بلد في العالم باهتمام خاص, لأن الدستور هو الذي يحدد طبيعة الدولة ومقوماتها, وحريات المواطنين وحقوقهم الأساسية, وعلاقة الدولة بالمواطنين, ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية وعلاقتها ببعضها. وهي جميعا أمور تؤثر في حياة المواطنين وتدفع المجتمع اما إلي الاستقرار أوالصراع حسب ما يتضمنه الدستور من أحكام. من هنا كانت أهمية أن تطرح لجنة إعداد الدستور في أي بلد أعمالها علي الشعب وأن تنظم السلطات حوارا مجتمعيا مفتوحا حول ما تنتهي إليه اللجنة من نتائج وصياغات, وتتاح الفرصة للقوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني وخبراء القانون ووسائل الإعلام الإطلاع علي أعمال اللجنة أولا بأول لكي تشرك الشعب وقواه الحية في متابعة أعمال اللجنة. وعندما تطرح مسودة الدستور للنقاش العام فإنها تكون موضع جدل وصراع متصاعد في أن تتم الصياغة النهائية للمسودة, وعندما يطرح مشروع الدستور للإستفتاء بعد أن يكون قد إستوعب آراء أوسع قطاعات الشعب وأصبح وثيقة توافقية بحق تعبر عن أوسع توافق ممكن بين مكونات المجتمع, وفي أغلب الأحوال فإن معظم الدول أتاحت لعملية إعداد الدستور الوقت الكافي للإعداد والمناقشة, ووصل الأمر ببعض هذه الدول إلي إصدار دستور مؤقت لضمان أطول فترة ممكنة لإنضاج عملية إعداد الدستور الجديد وطرحه لنقاش حقيقي يكفل توافق المجتمع حوله بعد أن يتم تعديله من خلال هذا النقاش. ولكننا في مصر نقوم بسلق الدستور حسب التعبير الشعبي, فاللجنة التي شكلت لا تعبر بصدق عن كل مكونات المجتمع بل يسيطر علي أعمالها تيار واحد, والوقت المتاح أمامها للإنتهاء من إعداد مشروع الدستور لا يتجاوز ثلاثة أشهر, تتم العملية في غرف مغلقة بعيدا عن الشعب, وفي تكتم وسرية فلا تتاح لوسائل الإعلام معرفة ما تصل إليه اللجنة من نتائج. بل وصل الأمر في تغييب الشعب عن هذه العملية والتشويش عليه أن الموقع الإلكتروني للجنة ينشر أخبارا متناقضة, وينشر صياغات معينة لبعض المواد ثم يسحب ما نشره وينشر صياغات أخري, بينما تتسرب للصحف صياغات مخالفة لهذا وذاك. وكلما حاول باحث مدقق أن يناقش ما يصله من صياغات يتم الرد عليه بأن ما يناقشه ليس صحيحا وأن هناك صياغات أخري, ونتيجة لهذا التضارب فيما ينشر عن أعمال اللجنة فإن عملية إعداد الدستور لم تعد جزءا من الحوار في المجتمع, إلي درجة أن الكثيرين يدعو إلي تشكيل لجنة موازية تمثل كل أطياف الشعب تضع دستورا يعبر بصدق عن احتياجات الشعب المصري ويكون نموذجا بديلا للدستور الذي تقوم اللجنة الرسمية بإعداده. كما أقيمت دعاوي قضائية لإبطال تشكيل اللجنة والدعوة إلي تشكيل لجنة جديدة بالإنتخاب المباشر من بين المواطنين. ولأن معظم القوي السياسية لم تعد تطمئن إلي أعمال اللجنة ولديها ملاحظات عديدة حول أدائها وحول ما نشر حتي الآن عن المواد التي تمت صياغتها وتضمنها تقارير اللجان التي ستعرض علي الاجتماع العام للجنة, فان هذه القوي تعتزم القيام بحملة جماهيرية وإعلامية مكثفة تعرض من خلالها رأيها حول هذه الصياغات, وهناك كثير من المواد التي تعترض عليها هذه القوي التي تؤكد حرصها علي العمل سويا من أجل إصدار دستور مصري وطني يرسخ دعائم دولة القانون الوطنية الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان حسب تعبيرهم الصادر في أول بيان عن عملهم المشترك لرفض هذه الصياغات, ويدعون إلي تأكيد حقوق المواطنة دون أي تمييز, والمبادئ والحقوق والحريات الأساسية المستقرة في الدساتير المصرية المتعاقبة, وتأكيد اعتراضهم علي بعض مواد الباب الأول المقترحة المنشورة علي موقع اللجنة والمتعلقة بمقومات الدولة والتي تقترح تعديل المادة الثانية بالمخالفة للتوافق العام حول ضرورة الحفاظ علي نصها الحالي, ومواد أخري تعكس مقومات وملامح الدولة الدينية وولاية الفقيه, وكذا بعض مواد الحقوق والحريات خاصة المتعلقة بحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية, وحقوق المرأة والأطفال, وحرية الصحافة, والتراجع عن إلغاء الحبس في جرائم النشر, وعدم إقرار حظر الرق والإتجار في البشر, والتراجع عن حظر الأحزاب ذات الطابع العسكري أو القائمة علي أساس ديني أو جغرافي أو أي مرجعية تتعارض مع المبادئ والحقوق والحريات الواردة في الدساتير السابقة بالإضافة إلي ملاحظات علي النصوص المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وضرورة النص علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالتفصيلة وتحديد أبعاد هذه الحقوق في التعليم والعمل والعلاج والسكن والتأمينات الاجتماعية النص علي مسئولية الدولة عنها وتؤكد حق المواطن فيها بما يؤهله للقيام بمسئولياته في القرن الحادي والعشرين في مجتمع يتطلع لمواكبة العصر وما يفرضه من تحديات. هذه الملاحظات التي تبديها القوي السياسية علي ما تم من صياغات لبعض المواد وما تحرص علي توفيره من حقوق وحريات في الدستور الجديد ليست بعيدة عن ثورة25 يناير التي دفع الشعب فيها ثمنا غاليا من أجل تغيير الأوضاع القائمة وإسقاط دستور1971 الذي أقام دولة إستبدادية أدت إلي خراب مصر, وإصدار دستور جديد يفتح الباب أمام تحقيق أهداف الثورة وإقامة دولة ديمقراطية حديثة, فهل يسمح الشعب المصري بإصدار دستور جديد يجهض الثورة أم يناضل من أجل دستور يقيم هذه الدولة الديمقراطية. كما أن المعركة حول الدستور الجديد ليست بعيدة عن الدعاوي القضائية ببطلان تشكيل الجمعية الحالية والمقرر نظرها أمام القضاء يوم2 أكتوبر المقبل. المهم في هذا كله الإرادة الشعبية في استكمال ثورة25 يناير بإصدار دستور جديد يرسي الأساس القانوني لشرعية نظام جديد يختار فيه المصريون حكامهم ويغيرونهم دوريا بإرادتهم الحرة. المزيد من مقالات عبدالغفار شكر