عضو مجمع البحوث الإسلاميةلم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف من حرية التفكير موقف النفور أو الإنكار أو التحريم حين سمع عن رجل يدعي( صبيغ بن عسيل) يسعي بين الناس بأمر جلل, وهو تتبع المتشابهات والغوامض في قضايا الاعتقاد, فإذا به يثير في النفوس بواعث الحيرة ودواعي الارتياب, وفاستدعاه عمر, ونهره وعنفه, ومنعه من الاسترسال فيما يفعل, إذ رأي رضي الله عنه في شيوع هذا النمط من التفكير وانتشاره بين العامة: خطرا كامنا يصرفهم عن الجادة, ويستنفد قواهم فيما لاجدوي منه ولا طائل تحته, كما يؤدي بهم إلي الاستغراق في الجدال, واللدد في الخصام, علي نفس هذا النهج سار حجة الاسلام أبوحامد الغزالي, فخصص لهذه القضية واحدا من أهم كتبه, أسماه( إلجام العوام) فجمهور الناس فيما يري أبوحامد ينبغي أن ينفضوا عنهم شهوة الجدال, حيث تتولد الرغبة لدي أطراف هذا الجدال في الغلبة لمجرد الغلبة, والانتصار للرأي لمجرد الفوز بالسبق, والظفر علي الخصوم, لاسعيا إلي الحق, ولا رغبة في الوصول إليه!! لكن الأمة الاسلامية بتأثير عوامل عدة قد ابتليت في الأزمان المتأخرة: بأقوام شغفوا باستخراج الخلافيات المهجورة من أضابير التراث القديم, تلك الخلافيات التي لاتمس جوهر الإسلام عقيدة, أو شريعة, وأخذوا يمضغون تلك الخلافيات, ويوقدون عليها لهيب الفتنة, وضرام الفرقة, فإذا بالاختلاف المحمود, وقد انقلب إلي صراع ممقوت, وإذا بالقضية ذات الأوجه المتعددة, وقد انقلبت إلي عقيدة أحادية الاتجاه لاتحتمل إلا وجهين, أحدهما هو الحق الذي لاحق سواه, والآخر: هو الباطل الذي لا باطل غيره!! ثم ازداد الأمر سوءا حين أتيحت لتلك الخلافيات العقيمة فرصة الظهور علي شاشات الفضائيات المتحفزة للإثارة, واصطناع أساليب الإدهاش والاجتذاب, فاشترك جمهور الناس من أنصاف المتخصصين وغير المتخصصين في نقاش عقيم, حتي أصبح هم الأمة المقيم يتمثل في إعادة إنتاج القرن الرابع والخامس الهجريين, كقضايا الصفات, وإنكار التأويل, والمهدي المنتظر, والنقاب, وما يماثلها, بل وإعادة إنتاج ما قيل بصددها في مجلدات التراث من الأدلة والردود والمناقضات, في صورة بائسة حينا, ومغلوطة حينا, ومزيفة حينا آخر. لقد كانت هذه القضايا وما يماثلها لا تطرح إلا في دوائر العلماء المتخصصين, الذين يملكون أدوات الموازنة والمقارنة, والتصحيح والترجيح, فيؤوبون إلي الصواب حيثما وجدوه, ويرجعون إلي الحق بعد أن يتبين الحق, دون خجل من التراجع, أو إصرار علي الخطأ!! أما الآن فإن هذه القضايا تطرح وبجرأة غريبة علي شاشات الفضائيات ذات الأضواء اللامعة, بينما عيون المشاهدين تتلهف لمعرفة من ستكتب له الغلبة, ومن ستحيق به الهزيمة, وانقلبت حلقات العلم التي ترفرف عليها أجنحة الملائكة إلي ساحات صراع وحلبات نزاع, تكون الغلبة فيها لجهير الصوت, وكثير الصياح!! إن لدينا في الفكر الاسلامي الرصين تمييزا منهجيا بين روافد ثلاثة, فهناك القطعيات الأصول, التي أحاطتها الأمة علي مدي تاريخها بسياج من المهابة والاحترام والمطلقية, وهناك الظنيات التي اختلفت حولها الآراء, وفقا لمناهج محددة تضبط هذا الاختلاف وتضع له من الضوابط ما ينأي به عن الهوي والغرض, ويصد عنه شطحات المتهوسين والزائغين, وهناك ما يسمي بالأغاليط, تلك قال عنها الامام الأوزاعي في القرن الثاني الهجري( إذا أراد الله تعالي أن يحرم عبده بركة العلم ألقي علي لسانه بالأغاليط!!). في سلة الأغاليط هذه تقبع أمشاج عديدة من شوارد الآراء, وخلافيات التراث المفرقة في التنظير, وغيرها مما يماثلها من قضايا فرعية تثير المشكلات, وتشيع الشبهات. ولئن كانت إثارة تلك الأغاليط: خطأ فادحا في كل عصر, فإثارتها في عصرنا هذا: شر مستطير, وفتنة وفساد كبير!! أليس من الفتنة أن يعود المسلمون بعد قرون مضين إلي إيقاظ بعض القضايا النائمة القابعة, في اغتراب بائس عن قضايا العصر وشواغله, ويتم ذلك بأحدث وسائل تكنولوجيا الفضائيات, والبث الإلكتروني الذي كان نتاجا لحضارة غير حضارتنا, تلك التي سبقتنا, حيث يجب السبق, وتجمدنا نحن, حيث لاينبغي الجمود!! ثم أليس من الفتنة أن نغفل عن قضايا التقدم والحرية, والسبق العلمي والالتزام الأخلاقي, والعدل الاجتماعي, وغيرها من قضايا المصير التي يحاول أن يصرفنا عنها أشباه( صبيغ بن عسيل), والذي استحق أن ينال علي يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما حاق به, فكان جزاؤه الأوفي؟!! المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى