سمعت كثيرا عن' أفريكوم', أو' قيادة إفريقيا' الأمريكية, واحتمالات تمركزها في المغرب, لكن لم أتابع أخبارها بعد ذلك, وضاعت مني وسط أحداث العالم اليومية. إلي أن وصلتني دعوة لحضور المؤتمر الأكاديمي الثالث لهذه القيادة في شتوتجارت بألمانيا خلال الفترة من11-15 إبريل.2010 وفكرة المؤتمر كما نظمته قيادة إفريقيا بالمشاركة مع مركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكي للشرق الأدني وجنوب شرق آسيا, أن يلتقي العسكريون العاملون في مركز القيادة مع الأكاديميين وصناع الرأي وممثلي المجتمع المدني من أجل تبادل الرأي والتعرف علي التحديات والتهديدات التي تواجه القارة السوداء; أو كما قال الجنرال' وارد' قائد الأفريكوم في خطاب الترحيب وافتتاح المؤتمر: نحن_ كعسكريين- لا نعرف كل شئ ونريد أن نسمع منكم!! تنفرد الولاياتالمتحدة بين دول العالم بتقسيمها للكرة الأرضية إلي مناطق جغرافية, وكل منطقة تنشئ فيها أو خارجها قيادة عسكرية أمريكية مسئولة عن إدارة الشئون العسكرية والمدنية المشتركة في تلك المنطقة, ويرأس كل قيادة جنرال أو أدميرال, وتخصص لها قوات عسكرية متنوعة طبقا لطبيعة مهمتها, كما يحدد لها منطقة جغرافية مسئولة عنها. ومثل ذلك كان يحدث من قبل في زمن الإمبراطوريات الكبري, أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد بدأ هذا التنظيم يفرض نفسه مع الحرب العالمية الثانية, استجابة لاتساع مسرح العمليات وامتداده علي مستوي العالم برا وبحرا وجوا. لذلك كان من الضروري إنشاء مراكز قيادة متخصصة لإدارة العمليات العسكرية في المناطق المختلفة وبكفاءة عالية, مع الأخذ في الاعتبار اختلاف طبيعة الجغرافيا والبشر في كل منطقة عن الأخري. وتجري مراجعة دورية لهذا التقسيم كل سنتين من أجل التكيف مع المتغيرات الجغرافية والسياسية الجديدة وكذا الاختلاف في طبيعة المهام, وتشكيل القوات. وينقسم العالم حاليا إلي ست قيادات أمريكية جغرافية: قيادة الشمال, وقيادة الجنوب, وقيادة الباسيفيك, والقيادة المركزية التي تقع مصر في إطارها, وقيادة أوروبا, وقيادة إفريقيا; بالإضافة إلي أربع قيادات أخري ذات طابع عملياتي مثل: قيادة العمليات الخاصة, وقيادة النقل, وقيادة العمليات الإستراتيجية, وقيادة القوات المشتركة. تم إنشاء قيادة إفريقيا الأمريكية بصورة مؤقتة في الأول من أكتوبر2007 كقيادة فرعية داخل قيادة أوروبا الأمريكية التي تحملت بمفردها لمدة عشرين سنة مسئولية العلاقات العسكرية بين الولاياتالمتحدة و40 دولة إفريقية. وقد أعلن عن بدء النشاط الفعلي لقيادة إفريقيا في الأول من أكتوبر2008 في حفل خاص داخل البنتاجون حضره ممثلون عن الدول الإفريقية. والحقيقة أن العسكريين في قيادة أفريقيا الأمريكية لم يكونوا متحمسين لإنشاء قيادة موحدة فوق الأرض الإفريقية بل دار التفكير أولا حول إنشاء قيادة مقسمة إلي أجزاء منتشرة علي مساحة واسعة, لكن ترجمة هذه الفكرة إلي واقع لم يتحقق, وتغير التفكير إلي إنشاء قيادة موحدة في شتوتجارت بألمانيا تكون مهمتها الأساسية تنفيذ برامج إعادة البناء بالتعاون والتنسيق مع دول وجماعات أخري. مع الوقت تغيرت الدافع وراء إنشاء الولاياتالمتحدة لقيادة مستقلة في أفريقيا بغرض مواجهة الإرهاب الدولي إلي الرغبة في استغلال مصادر النفط في إفريقيا, وحاجة الولاياتالمتحدة المتزايدة له, فضلا عن مواجهة التمدد الصيني في القارة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. وفي هذا الإطار اعتمد الكونجرس الأمريكي500 مليون دولار لمبادرة مكافحة منظمات الإرهاب عبر الصحراء الإفريقية ولمدة ست سنوات, وتلقت دول مثل الجزائر وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر والسنغال ونيجيريا والمغرب دعما مستمرا علي مستوي التسليح والتدريب والمعلومات. وقد كان هذا البرنامج استمرارا لبرنامج مشابه آخر انتهي في2004 ركز علي مكافحة تهريب السلاح والمخدرات والإرهاب. كما ركزت مثل هذه المبادرات علي العمليات الخاصة, والتدريب المشترك مع الدول الأخري. وبشكل عام, لم يتم إنشاء قيادة إفريقيا من فراغ, فقد سبق وجودها جهود مختلفة أمريكية لإقامة علاقات تعاونية مع عدد كبير من الدول والمؤسسات في إفريقيا, أصبحت بعد ذلك الأساس المتين لقيادة إفريقيا الأمريكية. وبدءا من منتصف2006 حتي أكتوبر2008 تحولت فكرة قيادة إفريقيا الأمريكية إلي واقع, وكان لوزراء الدفاع الأمريكيين والكونجرس دور في تطوير الفكرة حتي وافق عليها الكونجرس في28 سبتمبر2008, وعين الجنرال ويليام وارد قائدا لقيادة إفريقيا بعد انسلاخها تماما من قيادة أوروبا الأمريكية وصارت بذلك قيادة مستقلة مركزها شتوتجارت في ألمانيا. واتساقا مع الواقع الأفريقي وطبيعة الأحوال داخله, تحقق قدر كبير من الاتفاق علي دور هذه القيادة, وألا يقتصر نشاطها علي الشكل العسكري التقليدي بل يمتد إلي أنشطة أكثر اتساعا في مجالات المعلومات والدبلوماسية والشئون الصحية وإعادة البناء; وكلها مجالات تتفق مع الواقع الحقيقي الإفريقي وتتمشي مع احتياجاته. ولا يخفي علي أحد أن الولاياتالمتحدة كانت تهدف في الأساس إلي إحداث تحولات عميقة في إفريقيا علي نمط ما حققته من قبل من تجارب تاريخية ناجحة في اليابان وكوريا الجنوبية وشرق وغرب أوروبا وأمريكا اللاتينية. لكن دروس حرب العراق وأفغانستان, واختلاف الظروف والثقافات, دفعت بالأمور في اتجاه إعطاء الدول الإفريقية حق التجربة والخطأ, وكذلك دعوتهم للمشاركة في مبادرات تعاونية مع الآخرين في مجالات الديمقراطية, وحقوق الإنسان, والاقتصاد الحر, وحرية التعبير, وسيادة القانون, وكذا تمكين المرأة وإعطاؤها كامل حقوقها. لكن التحدي الحقيقي الذي يواجه القارة السوداء يكمن في عدم الاستقرار في مناطق معينة لأسباب متنوعة, وما ينتج عنه من خلق مجال طارد للنمو والاستثمار, وعرقلة في طريق تحقيق التحولات المأمولة, فضلا عن وجود فاعلين إقليميين علي مستوي القارة لا يمكن تجاهلهم عند تقييم سياسات التحول ونتائجها علي أرض الواقع. مصر علي سبيل المثال فاعل إفريقي لا يمكن تجاهله, وبرغم أن مصر لا تقع في منطقة مسئولية قيادة إفريقيا الأمريكية إلا أن موقفها من الأحداث يؤخذ دائما في الاعتبار في أية مشاورات أو عمليات تعاون علي مستوي القارة. وتبذل مصر حاليا جهدا مضاعفا للعودة إلي إفريقيا بقوة لتزيل ما وصمها به بعض الأفارقة بأنها لا تنظر إلي إفريقيا إلا كمصدر للمياه, وأنها لا تلعب دورا نشيطا في منتديات القارة الإفريقية وأحداثها, كما لا تقدم شيئا مؤثرا للتغلب علي التحديات التي تواجهها. وتواجه مصر علي المستوي الإفريقي تحديات انقسام السودان بين شمال وجنوب, كما تواجه تحديات المياه, وخلافها المستمر مع الدول المطلة علي منابع النيل, وكيفية توزيع المياه بصورة عادلة بين كل الأطراف. ويبرز علي الساحة الإفريقية فاعلان من خارجها مختلفان في أهدافهما لكنهما يحاولان الغوص في الأوضاع الإفريقية وتشكيلها لصالحهما. إسرائيل علي سبيل المثال تعمل بنشاط في إفريقيا في مجالات متعددة وتحاول مساعدة بعض الدول المطلة علي منابع النيل, أو تلك التي تزود النيل بكميات كبيرة من المياه مثل إثيوبيا, في بناء سدود علي النهر بما يؤثر علي نسب توزيع المياه بين الدول كما هو مدون في المعاهدات المنظمة لذلك. وقد يؤدي هذا الخلاف إذا لم يتم احتؤاه إلي نزاعات عسكرية وحروب أهلية. وتمثل الصين الفاعل الثاني الذي يحاول إقامة علاقات قوية مع حكومات وشعوب القارة بأسلوب مختلف عن الأسلوب الغربي. وقد عقدت الصين مؤتمرات علي مستوي القمة بينها وبين دول القارة الإفريقية, وكان تركيزها الأساسي علي التجارة والتعليم والصحة بدون أن تتعرض إلي جوانب الديمقراطية وحقوق الإنسان. وخلال فترة الحرب الباردة أعطت الصين اهتماما ملموسا للبنية التحتية الإفريقية, وأنشأت خط' تانزام' الحديدي في شرق إفريقيا. وهناك حزمة أخري من التحديات تحاول قيادة إفريقيا الأمريكية التعامل معها بالتعاون مع دول القارة وعلي رأسها تجارة السلاح والقرصنة, وتأثيرها علي أمن الملاحة في البحر الأحمر, وذلك بالتعاون مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والدول العربية. وكان للجامعة العربية وعمرو موسي دور في اقتراح تشكيل قوة عربية لمراقبة الممرات البحرية القريبة من الشواطئ الصومالية. كما تمثل مشكلة دارفور تحديا كبيرا للقارة, وتعمل هناك قوات لحفظ سلام من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ومصر تشارك بأكبر قوة حفظ سلام في درفور. وللولايات المتحدة دور في محاولة تسوية أزمة دارفور بالتعاون مع الدول الإفريقية وبدعم سياسي واقتصادي لتحقيق الاستقرار وتأمين حياة المدنيين من خلال تقديم الغذاء والدواء والحماية. ولاشك أن الولاياتالمتحدة من خلال القيادة الإفريقية تحاول تأكيد التعاون مع كل الدول المشاركة في هذه المهمة الصعبة. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد