أثارت المقالات التى نشرتها فى هذه الصفحة عن موضوع الذكاء الاصطناعى والآفاق التى يفتحها بشأن مستقبل الإنسان والعالم ردود فعل مختلفة. ووصلنى تعليق مُتميز من شاب مصري، ووجدت من المُناسب أن أفسح المجال لنشر هذا التعليق. والشاب هو محمد أبو شقرة الذى درس القانون والاقتصاد بجامعة باريس وعمل فترًة بمكتبة الاسكندرية ثُم انتقل للعمل خبير سياسات ببرنامج الأممالمتحدة للتنمية فى بيروت. وركز فى تعليقه على فلسفة مفهوم الذكاء الاصطناعى والأُسس والمُرتكزات التى يستند عليها مؤكدًا ضرورة اهتمام الباحثين العرب فى العلوم الاجتماعية بهذا الموضوع. وفيما يلى مقتطفات من الرسالة مع بعض التصرف لتبسيط ما ورد فيها . كَتب أبو شقرة: إن تطور الذكاء الاصطناعي، منذ تقديم عالم الحاسوب جون ماكرثى المصطلح عام 1955، ارتبط بالحاجة البشرية الأزلية إلى اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة وتفادى الخطأ البشرى أو بمعنى آخر، البحث المستمر عن أعلى مستوى من السرعة والدقة فى صناعة القرارات اليومية. وارتبط أيضاً، برغبتنا فى إشباع حاجاتنا الأساسية والتكميلية بأقل مجهود ممكن وأقل عدد من الخطوات والعمليات والمعاملات... الجديد فى هذه المرحلة من التطور، والتى أطلق عليها كلاوس شواب الثورة الصناعية الرابعة، هو التقدم المذهل فى مجالات علوم الحاسوب، والبيانات، والخوارزميات وعلوم الإدراك والشبكات العصبية وعلم النفس وتفرعاتها التى تتشعب بشكل كبير وتمزج ما بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. إن التقدم فى هذه المجالات قد فتح الباب أمام موجة جديدة من المحاولات للإجابة عن أسئلة بديهية سألها الفلاسفة منذ أفلاطون وأرسطو وابن سينا إلى ديفيد هيوم وبرتراند راسل والكثير غيرهم ممن تساءلوا عن كيفية اكتساب المعرفة والتعلم، والمناظرة التاريخية بين العقلانية والتجريبية، والسؤال الكبير: هل تُستنبط المعرفة باستخدام تقنيات التفكير المنطقى أم تُستنج من المشاهدة والتجربة؟... طور علماء الحاسوب هذا السؤال ليكون: هل يمكن للخوارزميات - و هى كلمة ترتبط باسم عالم الرياضيات العظيم محمد ابو موسى الخوارزمى و تشير الى مجموعة الخطوات الرياضية و المنطقية المتتالية لحل مشكلة ما - استخدام آليات التفكير المنطقى والملاحظة لإنتاج برامج تساعد الحاسوب والآلات على القيام بعمليات تحاكى السلوك البشري؟. تميزت محاولات الإجابة عن هذا السؤال فى القرن الحادى والعشرين بمشاركة جادة لعلماء البيانات والخوارزميات والإدراك، مستخدمين الكم الهائل من البيانات التى وفرتها بمنتهى الغزارة التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعى والتى تحتوى على تفاصيل غاية فى الدقة عن سلوك الأفراد واختياراتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فاستطاع العلماء على مدى عقود الكشف عن بعض اسرار العقل البشرى خاصة فيما يتعلق بعملية اتخاذ القرار وحل المشكلات والمؤثرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية عليها وملاحظة أنماط السلوك. إن الحيرة حول مصادر المعرفة لدى البشر انتقلت الى مجال الذكاء الاصطناعي، فأصبح السؤال هو: كيف تكتسب الآلة المعرفة؟ و كيف تدرك الآلة البيئة من حولها وتأخذ قرارات مناسبة؟ و تتصرف بحيث تأخذ القرارات المناسبة، هنا طور العلماء مفهوم تعلم الآلة والتعلم العميق بهدف إنتاج برامج تنظم سلوك الآلة وردود أفعالها دون تعليمات مسبقة. وسمح هذا التطور للآلات الذكية اى تلك الآلات التى تم تعليمها التمييز بين الاشياء و إقامة العلاقات بينها و انتهاج السلوك المناسب وفقا لوظيفتها، وفى بعض الأحيان اصبح لها القدرة على اتخاذ قرارات جديدة بناء على تقييمها للنتائج وتغير ظروف البيئة المحيطة. لذلك، مثلاً، استطاع الذكاء الاصطناعى تعلم قواعد الشطرنج وهزيمة بطل العالم فى اللعبة بعد أن حلل جميع الإستراتيجيات المتوافرة على الانترنت وتعلم من اخطائه فى مباريات سابقة واستطاع تطوير استراتيجية تتفوق على الذكاء البشري. و فى مجال التعليق على هذه الرسالة، اقول أن العالم شهد فى القرن الحادى والعشرين طفرات فى استخدام الذكاء الاصطناعى لتوفير معيشة أفضل للبشر وخدمات أكثر تميُزًا لهم فى مجالات الصحة والطب، والتربية والتعليم، وإنتاج الغذاء وجودته، السلامة والأمن، والنقل والمواصلات وغيرها من مجالات الحياة. ودار فى الدول الصناعية المُتقدمة مُساجلات حول مُستقبل آلات الذكاء الاصطناعي. فكان هُناك تخوف من آفاق التقدم فى هذا المجال مُحذِرًا من اخطار التقدم فى هذا المجال و انه سوف يأتى يوم تتمرد فيه الآلة على الإنسان وتتخذ قرارات تؤدى إلى دمار البشرية، واقترح اصحاب هذا التخوف وقف الاستثمار فى بحوث الذكاء الاصطناعي، وكان هُناك فريق آخر قد قلل من هذه التخوفات، مؤكدًا أن تلك الآلات لا تملكُ وعيًا أو إرادة مُستقلة مُنفصلة عن الإنسان. وبينما ساد هذا النقاش استمرت الدول الكُبرى فى ضخ استثمارات هائلة فى مجال الذكاء الاصطناعى والتوسع فيه. وبعيدًا عن موضوع مُستقبل البشرية، فإن هناك أخطارا حالية أبرزها أن الآلة سوف تحل محل الإنسان فى كثير من الوظائف وأن كثيرًا من الوظائف الحالية سوف تختفى وتنقرض. ومنها أيضًا عدم توافق مُخرجات النظم التعليمية فى كثير من بلادنا مع المهارات المطلوبة لهذا التطور. ولكن هذه الاخطار يُقلل من وقعها أن هُناك وظائف جديدة ومجالات مُستحدثة للعمَل سوف تنشأ ويتطلب ذلك إعادة تأهيل البشر بما يتواكب مع هذا التطور، وهى مسئولية مهمة تتحملها نظُم التربية والتعليم والتدريب. ونؤكد أنه لا تُوجَد مُفارقة أو مُفاصلة بين الإنسان والآلة أو بين الذكاء البشرى والذكاء الاصطناعي، بل تربطهما علاقة تكامل وتداخُل سوف تؤدى فى النهاية إلى ذكاء بشرى خارق يجمع بين قُدرة الإنسان على التكيف والابتكار إزاء واقع مُتغير، وقُدرة الآلة الفائقة على التنفيذ بكفاءة عالية تفوق البشر. إن علينا فى مصر أن نقتحم مجال الذكاء الاصطناعى بقوة وحسم, وأن نُطور فى نظُمنا التعليمية والانتاجية والخدمية بما يتوافق مع ذلك. وعندما نعرف ماذا تقوم به الدول الأُخرى فى هذا المجال يتأكد لدينا أنها معركة البقاء والتقدم والمُستقبل الآمن. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال