كتب:فاروق شوشة كان من حظي اللقاء به في مقتبل العمر, أنا في العشرين وهو يخطو إلي الأربعين, أنا طالب في كلية التربية بجامعة عين شمس يحاول الحصول علي دبلوم في التربية وعلم النفس يجعل مني تربويا مؤهلا للعمل في التدريس بعد تخرجي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. أما هو فواحد من اندر الأساتذة الذين ملأوا حياتي علما وفضلا وأقباسا من نور المعرفة الحقيقية والتأمل الرصين, وهو يدرس لنا فلسفته في الوعي بأصول علم التربية, واستعراض نماذج الشخصية والمواطنة في عديد الحضارات والثقافات, وصولا إلي سؤال النمط الحضاري للمصري في ذلك الأوان النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي وقادتنا الأبحاث والدراسات إلي تسميته بالنمط الفهلوي, وهي كلمة فارسية الأصل, تعني مجموعة من الصفات السلبية لصاحبها, في الانتهازية والتحايل من أجل الوصول إلي هدف واتباع كل الطرق الممكنة, ومقارنة هذا النمط'' الفهلوي'' بما عرفه العالم القديم من نموذج مواطن أثينا ومواطن إسبرطة, الأول دعامته تربية ديموقراطية تحقق لصاحبها الحكمة والعقل والسلوك الحضاري, والثاني نموذج تربي وتكون في ظل مناخ تسيطر عليه مفاهيم الحرب والقتال والعدوان. ها هو ذا أستاذنا الجليل الذي يخطو الآن في مهابة التسعينات من العمر وبهائها, يخرج علينا بكتابه الجديد الذي يمثل خلاصة كتابات وخيرات طويلة اتسع لها عمره المديد والمبارك عن ثقافة الحرية والديموقراطية والإصلاح المجتمعي وسيرته الذاتية( خطي اجتزاناها) والحادي عشر من سبتمبر2001 وتداعياته التربوية والثقافية في الوطن العربي, والجامعة بين الرسالة والمؤسسة, في الوطن العربي, والجامعة بين الرسالة والمؤسسة, ومواجهة العولمة في التعليم والثقافة, والتنمية البشرية وتعليم المستقبل, وهمومنا التربوية والثقافية وغيرها من الدراسات الجادة وترجماته المختارة وإشرافه وتقديمه علي المستوي'' نحو آفاق تربوية ومتجددة''. هذا الكتاب الجديد أصدره بالاشتراك مع تلميذته الأستاذة الدكتورة صفاء أحمد الأستاذة بكلية التربية جامعة عين شمس وعنوانه: المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين في القرن الحادي والعشرين, فيمثل خلاصة الخلاصة في فكرة التربوي المتطور يلفت انتباهنا بشدة إلي أهمية استخدام مجاز الشجرة التعليمية بديلا عن السلم التعليمي في تصور مفاهيم مسيرة النظام التعليمي فالشجرة كائن حي نام, له جذوره الممتدة والقابلة للامتداد. لها جذع أساسي كبير الحجم, طويل المدي, قوي متماسك, ينطلق من الجذور. وللجذع فروع رئيسية, تتشعب منها أغصان وفروع متعددة ومتجددة باستمرار دائمة الخضرة. ومن هذه الفروع تبرز الثمار علي رعايتها طوال العام من ري وتسميد ومكافحة للآفات. ويتسع مجاز الشجرة التعليمية لعرض الفكر التربوي للدكتور حامد عمار:'' فمقومات الشجرة التعليمية تتمثل في كيانها العضوي الكلي في جذور مغروسة في تربة الثقافة الوطنية, والممتدة في جذعها وساقها وبعض تفرعاتها مع البيئة والفضاء الفسيح للمعرفة الإنسانية ومستقبل نموها. وساق الشجرة هو مراحل التعليم الأساسي التي يتسلق عليها جميع المتعلمين حتي نهايته, دون استبعاد لأي منهم لتجاوزه سنا معينة, أو لتعسره في مادة معينة, أو لرغبة في استمرار الدراسة بعد أن تركها زمنا ما, وينسحب ذلك علي مختلف مراحل التعليم الثانوي والجامعي, وفي هذا التصور يستطيع المتعلم بعد نهاية مرحلة التعليم الأساسي أن يترك التعليم لضرورات خاصة, ليعود بعدها علي الموقع الذي تركه; ولأن الشجرة دائمة الخضرة والنمو في جذورها وجذعها وتعدد أغصانها وفروعها, فهي تسمح بتعدد التخصصات وتنوعها, وبالتطوير والتجدد في أغصانها, بما تقدمه من مناهج متجددة وإتاحة الفرص وانفتاحها للراغبين في التعليم بعد فترة من انقطاعه, كذلك فإن هذا التصور للشجرة النامية بديلا عن السلم المتجدد ينتج فرصا للتوسع والتعدد في أنواع التخصصات وفي تكاملها, وهكذا يسهل التنقل بين فروعها من التعليم النظري إلي الفني والعكس, ومن تخصص إلي تخصص, ومن مدرسة, ومن جامعة إلي جامعة, وهكذا تتحدد فرص التعليم بقدرات الطالب وليس بعمره, وبرغباته لا بقوانين ولوائح جامدة.'' ولا يغيب عن بال أستاذنا الكبير الدكتور حامد وهو يضع هذا المجاز البديل المتمثل في الشجرة التعليمية أن هناك عشرات المعوقات التي تفرضها اللوائح وقوانين التعليم ما قبل الجامعي وقوانين وشروط المجلس الأعلي للجامعات ولجان القطاعات ومجموعة اللوائح التنفيذية للكليات. من أكثر فصول هذا الكتاب النفيس عمقا وفائدة الفصل الذي عنوانه:'' قيم الثقافة والتعليم بين التقدم والتخلف'' وهو أمر يتجه إلي مرجعيات الجماعة البشرية في قيمها ورموزها ومعانيها ودلالاتها في حركة الجماعات, وتتحم هذه الرؤية حين يكون إطارنا المرجعي هو السعي نحو تأسيس ثقافة المجتمع ديموقراطي وتعليم ديموقراطي, من منطلق أن الإنسان هو صانع حياته وثقافته, ويري المؤلفان أن هناك نوعين من الثقافة( أي أسلوب الحياة) هما ثقافة التقدم وثقافة التخلف, وقد يوجد النوعان في حقبة زمنية واحدة معا, ويكون بينهما صراعات واضطرابات, أو( حوار طرشان) في بعض الحالات, وهما يريان أنها في كثير من الحالات تتجسد في مجموعة من الرموز بين التحديث والموروث, وما يطلق عليه التناقض بين الأصالة والمعاصرة أو بين الفكر النسبي المتطور وفكر الحقائق المطلقة الوحيدة, وهو مفهوم ومضمون يؤكده أصحاب الفلسفة الإنسانية مثل المفكر الفرنسي أندريه ما لرو والإسباني جوزي أورتيجا والبريطاني ت.1 س. إليوت وعبدالرحمن بن خلدون وابن قيم الجوزية ورفاعة الطهطاوي وغيرهم من المعنيين بنمو الإنسان والمجتمع, وتتخلص الثقافة لديهم بأنها كل ما يجعل للحياة معني متمثلا في منظومة من القيم, ويوضح المؤلفان: الدكتور حامد عمار والدكتورة صفاء أحمد أن القيم الثقافية مفهوم مركب تحدد خصائصه الواعية عوالم وسياقات التاريخ والأوضاع المادية والعقائد الدينية والحاجات الاقتصادية والتكنولوجية والجغرافية والعمرية, يولد الإنسان وينمو في أجوائها وفواعلها متأثرا بها وموثرا فيها من خلال عملية دينامية جدلية بحيث يكون في الوقت ذاته منوعا وصانعا لقيم الثقافة التي كونها وراكمها وبلورها سلفه في أزمان سابقة, حتي انتهت إليه ليتعلمها ويستنبطها, كما يؤثر فيها ويطورها, فهو يعيش معها وبها ولها, كما يحرص علي توصيلها إلي الأجبال التالية. اللغة التي تسيطر علي الكتاب في كل فصوله وصفحاته هي لغة الدكتور حامد عمار المشرقة, الواضحة, التي لا تتخفي ولا تلغز, بل تتكيء إلي ثقافة رصينة في العربية والإنجليزية, ووعي عميق ببلاغة لغتنا الجميلة ومواطن جمالها علي مدي العصور, والاستشهاد بأقباس منها حين يشكل الاقتباس إضافة حقيقية لكل ما يكتبه ويبدعه, ويبدو أن تلميذته شريكته في صنع الكتاب قد استطاعت أن تتملك خبراته وطرائقه ومنهجه في الكتابة والتعبير والعرض والاستقصاء والرجوع إلي أحدث المصادر والتقارير ومصادر الإلهام( مثل كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين الذي ألفه رفاعة رافع الطهطاوي), وهو الكتاب الذي استوحي منه الدكتور عمار عنوان كتابه الجديد, وكأنه بمثابة الامتداد الحي المتطور, والنسيج التنويري الذي يخترق الأزمنة والعصور. أعود في ختام الحديث إلي ما بدأت به حين كنا ندرس مع الدكتور حامد عمار نموذج الفهلوي في المواطنة المصرية, وما أدلي به في حوار تليفزيوني معه بعد هذه المقولة بعقود من الزمان, ليقول لي إن نموذج المواطنة المصرية الآن يتمثل في'' الهباش'' الذي يخطف كل ما يتاح له وما لا يتاح.... ومن'' الفهلوي'' إلي'' الهباش'' ياقلب لا تحزن... أما أنت يا أستاذنا العالم الجليل بارك الله فيك وفي عطائك, وأبقاك لنا سراجا منيرا, وحكمة عميقة, ورؤية مستقبلية نافذة.