فى بداية التسعينيات, كُنت بحُكم عملى كأمين للمجلس الاعلى للجامعات قريبًا من وزير التعليم الأسبق د.حسين كامل بهاء الدين الذى امتلك رؤيًة مُتكاملة لتطوير التعليم ما قبل الجامعى وشملت تحديث المناهج والمُقررات الدراسية ونظُم التقويم والامتحانات, وتدريب المُعلمين, وبناء أعداد هائلة من المدارس فى كُل المحافظات. وشهدتُ كيف تعرضت هذه التجربة وقتذاك لحملات متتالية من النقد الجارح والتشويه المُتعمَد والتهويل من الأخطاء والمُبالغة فى التركيز عليها. نبعت هذه الحملات من الفئات والهيئات التى أُضيرت مصالحها كشبكات ومراكز الدروس الخصوصية, ودور نشر الكُتب والملاحق الخارجية. وللأسف، فإن بعض أجهزة الدولة شجعت هذه الحملات لأسباب تتعلق بتسوية حسابات مع هذا الوزير، وفى النهاية ترك الوزير منصبه، وبعد خروجه تراجعت الحكومة عن هذه السياسة وتم تعديل القوانين المُنظمة للتعليم التى صدرت فى فترة توليه الوزارة, وعادت الأمور إلى ما كانت عليه. تذكرت هذه المشاهد وأنا أُتابع الأخبار والمقالات عن امتحانات طلبة الصف الأول الثانوى الذين يتم اختبارهم وفقًا للمُقررات الدراسية ونظام الامتحان الجديدين وطبقا لاستراتيجية تطوير التعليم ما قبل الجامعى التى أقرتها القيادة السياسية والحكومة وينفذها وزير التربية والتعليم. تابعت التركيز على جوانب الخلل والقصور والمُبالغة فى عرض التأثيرات السلبية التى لحقت بالطُلاب وذويهم بسبب ذلك, واقتراح مراجعة عملية التطوير وذلك من خلال الدعوة إلى مؤتمر يُشارك فيه الخبرات والمُتخصصون فى هذا الشأن. وكان أكثر ما لاحظتُ هو تعمد تلك الكتابات شخصنة الموضوع فنجدها تشير إلى سياسة طارق شوقى وتُقدمه كمسئول مباشر عن هذه الأخطاء والهدف هو إضعاف الوزير وإظهاره أنه يمثل عبئًا على الحكومة وأن المصلحة تقتضى العودة إلى الأوضاع القديمة به أو بدونه. وما يحدث فى مجال التعليم نشهده أيضًا فى مجالات أُخرى حتى يبدو لى أن حزب أعداء التغيير هو من أكثر الأحزاب فى مصر نشاطًا وحيوية ومن أعلاها صوتًا وضجيجًا. ومن المُهم أن نكشف عن دوافع وأفكار أعداء التغيير حتى لا ينجحوا فى مسعاهم ويصبحوا عقبة أمام تقدم مصر. هناك بالطبع أسباب موضوعية للتخوف من التغيير وهو تخوف طبيعى وإنسانى فالبشرُ عمومًا أعداء ما جهلوا, وهُم يميلون إلى الاستمرار فيما ألفوه وتعودوا عليه وأصبح جزءًا من حياتهم اليومية وهو ما كتب عنه طه حُسين نقلًا عن ابن خلدون بأن الإنسان ابن عوائده. ويرتبط هذا التخوف أيضًا بمكانة اجتماعية لبعض الأفراد أو بمصالح مادية يضمنها لهم الوضع القائم. ويترتب على ذلك أن التغيير يُصبح تهديدًا لما وقر فى حياة الناس وعاداتهم أو للمكانة والمصالح التى اكتسبها البعض. ويزداد هذا التخوف فى المراحل الأولى من التغيير عندما تكون مساحة عدم اليقين نتائج التغيير غير واضحة أو مؤكدة وكذلك فى المُجتمعات التى تسودها ثقافة مُحافظة وتضعُف فيها قيم التجديد والنظرة المستقبلية. وإزاء مُحاولات التغيير, فإنهم يتحركون لمُحاربة هذا الجديد والضغط على من يُدافعون عنه للتراجع والعودة إلى الأوضاع القديمة. كُل هذا بشكل عام طبيعى ومفهوم ولكنه يُصبح غير طبيعى وغير مفهوم عندما تكوُن سوءات الوضع القائم قد بانت للجميع، حيث تراجع مُستوى خريج التعليم ما قبل الجامعى إلى درجة لم يعد يختلف عليها احد ويكشف عنها تأخر ترتيب النظام التعليمى المصرى فى المؤشرات العالمية الخاصة بجودة التعليم. ويُصبح غير مفهوم أيضًا عندما يتحول الاختلاف مع سياسة تطوير التعليم إلى سُباب شخصى واغتيال لشخصية الوزير وإلى مهاترات وتحركات أمام مبنى الوزارة. ويزداد الأمر غرابًة عندما ينتهز البعض أول خطأ فى التطبيق ويطالب بهجر النظام الجديد بأسره وتنشئ مواقع ومجموعات الكترونية تسعى لتحقيق نفس الغرض. تلك المظاهر تُشير إلى أن الاختلاف مع هذه السياسة الجديدة مصدره الدفاع عن مصالح مالية ومصادر دخل بملايين الجنيهات سوف يوقفها تطبيق السياسة الجديدة. وأن المطلوب هو إثبات فشلها قبل أن تُعمم على السنوات الدراسية الأُخرى. فمن الطبيعى أن تطبيق أى نظام جديد يعتريه بعض الأخطاء وأن علينا التعامل مع هذا التطبيق بقدر كبير من التدرج والمرونة والقدرة على التصحيح. ولا يوجد نظام جديد فى المجالات الاجتماعية والانسانية قد تم تطبيقه بشكل كامل بنجاح مرة واحدة كما أن عملية متابعة التنفيذ وتحديد الأخطاء وإجراء التدخلات اللازمة لتصحيحها هو أحد عناصر تنفيذ أى سياسة عامة. التغيير هو سنة من سنن الخلق والكون والطبيعة, والمدافعون عن الجديد عادة ما تكون أعدادهم قليلة فى أول الأمر ولكنهم تدريجيا يتحولون إلى أغلبية مع اتضاح ما يقدمه الجديد من منافع لعموم الناس. شاهدنا هذا فى موضوع تعليم المرأة وفى التحاقها بالجامعة وخروجها إلى ميدان العمل, وفى المناقشات التى سبقت إصدار قانون الخلع وفى غير هذا من موضوعات. وفى غمار التغيرات السريعة التى يشهدها عالم اليوم وتغير كثير من جوانب النظام الاقتصادى والاجتماعى والعلاقات بين البشر تحت معاول الثورة الصناعية الرابعة، فإن علينا أن نُعطى لقيم التغيير والتجديد مكانة أكبر فى نفوسنا وحياتنا. التعليم فى أى بلد هو الآلية الأساسية لإكساب البشر المعارف والمهارات والقدرات لإدارة المجتمع والدولة ولإنتاج النُخب الحرفية والمهنية والثقافية والبحثية, وهُناك تنافُس بين الدول فى تطوير نظُم تعليمها وفى اقتباس أفضل القواعد التى ثبت نجاحها فى نظم أُخري. وفى مصر, فقد أصبح تغيير النظام التعليمى أمرًا مُلحًا وضروريًا، بل أقول إننا تأخرنا فى إنجازه سنوات. الموضوع إذن ليس شخص وزير التربية والتعليم وإنما جودة وتنافسية النظام التعليمى المصرى الذى هو أحد المفاتيح الأساسية لإنجاز التنمية الإنسانية المُستدامة. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال