إن سمات النظامين العالمى والاقليمى - وهو ما تناولته فى الاسبوعين السابقين- توضح بجلاء اننا نعيش فى عالم خطر ملىء بالصراعات بين الخصوم وتنافسات بين الاصدقاء حول الهيمنة والنفوذ وقضايا التجارة الدولية والاستثمار والتقدم التكنولوجي، وفى منطقة تشهد جميع صنوف الانقسامات الاجتماعية والصراعات السياسية والعسكرية، وتنتشر فيها اخطار الافكار المتطرفة وميليشيات العنف والارهاب العابرة للحدود. واذا اضفنا المشكلات الخاصة بمصر وجوهرها انها تخلَفت وتأخرت فى اغلب المجالات عن التطور الذى حدث فى كثير من الدول العربية والشرق الاوسط ، ويكفى لإثبات ذلك نظرة الى ترتيب مصر وموقعها فى اى من المؤشرات العالمية. وبناء على ذلك، فما هى الاولويات التى ينبغى ان تتبناها مصر فى هذه المرحلة؟ وللوضوح فسوف اطرحها بإيجاز وفى شكل نقاط وبدون ترتيب، لأنها مترابطة ومتداخلة وكل منها يؤثر فى الآخر. زيادة القدرات الكلية للاقتصاد المصرى وفقا لمؤشر معدل النمو الاقتصادى ومعدل زيادة الناتج القومى الاجمالي، اى زيادة حجم الثروة الوطنية. ويعنى هذا اقامة مشروعات فى كل القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة وتجارة وخدمات. الهدف هو تحقيق طفرة اقتصادية ونقلة موضوعية كالتى حدثت فى الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام، والتى تحققت من خلال دور فاعل للدولة فى الاقتصاد، والتعاون بين قطاع الدولة والقطاع الخاص والقطاع الثالث التعاونى والمجتمع المدني، وتشجيع الاستثمارات الاجنبية على المشاركة فى تنفيذ خطة التنمية. ودعم ذلك سياسة علمية وتكنولوجية للمشاركة او على الاقل الاستفادة القصوى من نتائج الثورة الصناعية الرابعة ، وسياسة اجتماعية لحسن توزيع عائد التنمية وعدالته، وسياسة حازمة لإنفاذ القانون على الجميع ومكافحة الفساد المالى والاداري. تنمية رأس المال الاجتماعى الذى يشير الى حجم ما يمتلكه المجتمع من خبرات ومهارات وثقة متبادلة بين الافراد اى الاستثمار فى البشر فى تعليمهم وصحتهم وثقافتهم والخدمات المقدمة اليهم حتى يصبحوا قوة داعمة لعملية التنمية. ولابد من الاعتراف بان امامنا شوطا كبيرا فى هذا المجال بحكم نسبة الامية الابجدية التى تصيب 25% من السكان على الاقل، والامية التكنولوجية وانخفاض مستوى المهارات والقدرات بشكل عام، والزيادة السكانية المطردة بين الشرائح الأقل تعليمًا وقُدرًة. خلق البيئة الثقافية المحفزة للتنمية والتقدم. وقد تعمدت طرح هذا الموضوع فى بند مستقل لإبراز اهميته فالتنمية ليست مجرد ارقام اقتصادية واحصاءات او امور مادية وحسب، بل ان استدامتها واستمرارها يتطلبان تغيير القيم الثقافية السائدة لدى اغلبية ابناء المجتمع، بحيث تسود منظومة القيم المحفزة للتقدم والدافعة له، مثل قيم الاستعداد لقبول التغيير والانفتاح لتفهم الافكار الجديدة، والتعايش مع الآخرين المختلفين وغير ذلك من قيم المجتمعات الحديثة و بما لا يهدد هويتنا الثقافية و الحضارية. ما زالت افكار التطرف تجد بيئة حاضنة لها فى مصر، وبينما خطت السياسات الامنية والتنموية فى مجال محاربة التطرف والارهاب خطوات محسوسة، فإن المواجهة الفكرية والثقافية ما زالت تراوح مكانها، وما زالت تركز على مؤتمرات وندوات على مستوى النخبة لا احد يعرف مدى تأثيرها على عموم الناس. إقامة مؤسسات الحكم الرشيد وضمان المشاركة الاجتماعية والسياسية فيها، وتوفير القنوات المنظمة للتعبير عن الرأي. وقد اوضحت نتائج البحوث العلمية وتقارير الاممالمتحدة ان احد شروط التنمية المستدامة هو مشاركة المواطنين على المستويين المحلى والوطني. يواجه مصر اليوم تحدى اقامة التوازن بين الاتفاق الوطنى حول الاهداف والمصالح والالويات الوطنية، والتعددية و الاختلاف فى الآراء بشأن كيفية تحقيقها، ومتابعة خطط وبرامج تنفيذها. واعتقد انه بعد الخبرات المريرة التى مرت بها مصر، فان هناك مساحة واسعة من الاتفاق الوطنى حول التوجهات العامة تسمح بتبلور مناخ تتعدد فيه الآراء. نحن نواجه تحدى التواصل مع الفئات الأقل سنًا والأكثر تعليمًا فى المُجتمع. ويحتاج التعامل معه الى خطاب سياسى واعلامى يخاطب العقل وتدعمه الحجج من خبراتنا والدروس المستفادة من تجارب الآخرين. بناء الشراكات والتحالفات الاقليمية والدولية, بمعنى أن تُدير الدولة علاقاتها الخارجية بما يخدم الأهداف السابقة، وأن يكون الهدف هو تعظيم المنافع والمصالح وتقليل المخاطر والتهديدات. يتطلب ذلك تنويع العلاقات مع دول العالم وبالذات الدول الكُبري، وأن لا تكون العلاقة مع أى طرف اقليمى أو دولى قيدًا على حُرية الدولة فى تحقيق مصالحها. ويتطلب أيضًا عدم التورط فى حروب خارجية يُمكن أن تستنزف موارد الدولة والمجتمع. لا أقول بالانكفاء على الذات ولكن بان تكون التدخلات الخارجية حذرة ومحسوبة وبالقدر الذى يتوافق مع المصالح المصرية. ويتطلب كذلك العمل باستمرار على توسيع دائرة التعاون وتبادل المنافع والمصالح بدلًا من الاستثمار فى الصراع او الوقوع فى براثنه. حماية الأمن الوطنى المصري، يشير ذلك الى حماية الدولة واقليمها وشعبها ومؤسساتها. يتحقق ذلك من خلال تطوير قدرات الجيش المصرى عُدًة وعددًا, تسليحًا وتعليما وتدريبًا. فلا قيمة لتنمية اقتصادية او اجتماعية لا يمكن حمايتها من الأخطار الخارجية، وايجاد نظام للردع، أى ان يعرف المُعتدى الثمن العالى الذى سوف يدفعه جراء العُدوان على مصر، ويكون فى هذا الإدراك ما يمنعه من اتخاذ هذا الاجراء. وهناك معنى أعمق للأمن يتمثل فى التحصين الذاتى وتطوير جهاز المناعة الوطنية وذلك بتوثيق العلاقة بين المُجتمع والدولة، والتفاف الاغلبية الشعبية حول الاهداف والاولويات الوطنية ،وعدم تصديق أو الانسياق وراء الشائعات المعادية. الامن المصرى والامن العربي. من المهم ادراك الصلة الوثيقة وعلاقات التأثير والتأثر بين ما يحدث فى البلاد العربية ومصر، وانه ليس من الممكن عزل حالة التنمية او الاستقرار السياسى والاجتماعى عندنا عن ما يحدث فى المنطقة من حولنا، وان ما يحدث فى مصر يؤثر بدوره خارجها . هذه أولويات ومهام ثقيلة ومكلفة ومرهقة، بل هى تمثل اعلان حرب ضد التخلف والفقر، ويحتاج تنفيذها الى درجة عالية من الاتفاق الوطنى والانضباط والمتابعة الدقيقة للتنفيذ ،والى مشاركة سياسية واجتماعية فعالة من الاحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدنى ، والى الاستمرار فى تجديد شباب الدولة والمجتمع وتحديثهما بما يتناسب مع مقتضيات العصر الذى نعيشه. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال