لماذا يهيمن الجمود على الفكر السياسى والاجتماعى المصرى المعاصر، ومن ثم يعاد إنتاج أفكار تجاوزها الواقع التاريخى طيلة العقود الماضية؟ ثمة عديد الأسباب على رأسها تراجع العقل والفكر النقدى والقيود على المجال العام والحريات السياسية والفكرية والبحثية، وسطوة التسلطية السياسية والدينية فى المراحل الماضية، وجمود النظام اللغوى، وضعف الترجمات والمتابعات لتطور الفكر العالمى فى الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وأسباب أخرى عديدة، لكن واحدا من أهم الأسباب فى تقديرنا يتمثل فى محدودية الدراسات المنهجية التاريخية والتفكيكية النقدية التى قامت بوضع خرائط تطور نظم الأفكار الأساسية ومنتجيها البارزين، وتحليلها فى علاقتها بالواقع الموضوعى ومشكلاته الأساسية، بحيث يستطيع الباحث والمثقف أن يجد مرجعًا وأكثر لدراسة أهم مفكرى ومثقفى المدارس الأساسية الماركسية، والليبرالية والناصرية والإسلامية والمستقلين. النظرة الفاحصة للكتابات المصرية حول تاريخ تطور الأفكار منذ عقدى الستينيات والسبعينيات وما بعد تشير إلى نقص شديد، وشبه غياب لمقاربات منهجية لأهم الكتابات المؤثرة على مسارات العقل والفكر وهوامشه فى كل مدارسه ومناحيه مذّاكَ وإلى الآن. قليلة الأطروحات الجامعية التى تناولت الإنتاج الفكرى والبحثى الذى قدمه بعض المفكرين والمثقفين المصريين من جميع المدارس الفكرية، وهو ما يجعل بعض الفكر الذى ينتج، وكأنه يدور فى فراغات، ومقطوع النسب المرجعى التاريخى والفلسفى..إلخ، من هنا تثور الأسئلة هل هناك دراسات وافية حول تطور الفكر الماركسى وجماعاته وتياراته المختلفة وأهم منظريه أو باحثيه فى عقدى الستينيات والسبعينيات وما بعد. هل هناك دراسات وافية عن الفكر الناصرى ورموزه، وحول مصادره وأصوله، وتنظيراته لاسيما بين مثقفى السبعينيات والثمانينيات وما بعد، وهو ما يشكل ثغرة فى حياتنا الفكرية والسياسية. هل هناك دراسات حول تاريخ الليبرالية ورموزه البارزة أو الهامشية، فى ظل تطور الفكر السياسى المصرى بعد نظام يوليو 1952 بمن فيهم بعض مثقفى ومفكرى «الليبرالية المصرية» الذين أيدوا الضباط الأحرار وعلى رأسهم طه حسين، وعباس العقاد، وسلامة موسى، ووحيد فكرى رأفت، ومحمد عصفور، وخالد محمد خالد وآخرون. أين نضع أفكارهم بعد يوليو مع ما قبلها؟ هل تمت دراسة أفكار سعيد النجار، وإبراهيم شحاتة، وبعض أفكار جيل السبعينيات وما بعد فى إنتاج الخطاب حول الليبرالية والتعددية، لاسيما الذين قدموا أطروحات فكرية فى تحليل بنية الأفكار هل تمت دراسة علاقة الأفكار التى طرحت بتجديد الدولة وهياكلها؛ وتركيبة النخبة الحاكمة وأصولها الاجتماعية؛ وعلاقة الأفكار المقدمة بالتركيبة الاجتماعية ومشكلاتها؟! هل تمت دراسة التحولات الفكرية لبعض المثقفين المصريين من الماركسية إلى الاشتراكية الديمقراطية، أو إلى الليبرالية من أمثال أحمد عبد الله رزة، ومحمد السيد سعيد، ووحيد عبد المجيد، وعبد المنعم سعيد، وأسامة الغزالى حرب وجمال عبد الجواد وحسن أبو طالب وآخرين. هل تمت دراسة منظرى الأصولية الإسلامية من أجيال الثمانينيات والتسعينيات وما بعد من التحقوا بالأفكار التى دارت حول المشروع الحضارى الإسلامى، وأسلمة المعرفة، والخصوصية الحضارية وما تفرع عنها؟ لم تدرس أفكارهم على نحو موضوعى ونقدى كنقلة تغير فى مسار الأصوليات الإسلامية وحولها، وذلك على نحو موضوعى، من خلال تقديم منظومة أفكارهم، وتفكيكها وتحليلها بنيويا، وفحص مرجعياتها النقلية، أو استعاراتها من بعض المدارس والنظريات الغربية فى العلوم الاجتماعية، ومدى ارتباط بعضهم بجماعات الإسلام السياسى على نحو ما برز بعد يناير 2011 وما بعد! هل هناك دراسات تاريخية وتحليلية مقارنة حول تاريخ التطور الفكرى والاجتهادى الأزهرى؛ أو الفكر الدينى السنى فى مدارسه المختلفة؟ دراسات محدودة وشحيحة وجزئية ووصفية وتبجيلية فى بعضها، لكن لا توجد سوى بعض الدراسات عن بعض الأزهريين الكبار، لكن محدودة الكتابات التاريخية حول الأطروحات التجديدية فى علم الكلام، أو العقيدة أو الفقه، أو الفتاوى منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى أوائل عقد الستينيات، وذلك من خلال الدرس التحليلى لمناهج هؤلاء المجددين وفكرهم وخطابهم الدينى فى بنياته ومرجعياته، والعلاقة بين مقارباتهم التفسيرية والتأويلية، وبين النص المقدس والسّْنُوى، وحدود النقل والاتباع والاجتهاد والابتداع فى الممارسة الاجتهادية وحدودها من الصواب أو الخطأ. هل ثمة درس لعلاقة تفسير وتأويل المفسر الكلامى أو الفقهى أو الإفتائى، بالنص المقدس والسّْنوى، وبين مشكلات الواقع الموضوعى وأسئلته فى السياق التاريخى؟ وما هى حدود الاجتهاد وشرعيته فى هذا السياق؟ قليلة أيضا الدراسات حول الأزهر وسياساته التعليمية ومناهجه فى ظل تطور النظام السياسى المصرى من المرحلة شبه الليبرالية إلى مراحل يوليو المختلفة، وحول إنتاج المدارس الفقهية والتفسيرية لدى كبار الأزهريين، أو بعض هوامشهم! ثمة فراغات بحثية لابد من سدها، حتى يمكن تطوير أو تجديد أو إصلاح الفكر المصرى عموما والدينى خصوصاً، والذى يستلزم ملء الفراغات الفكرية والبحثية والنظرية. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح