إن الدولة بمواردها المالية الحالية وخلال المستقبل المنظور لا يمكنها أبدا لا تطوير التعليم ولا تحسينه. هذه الحقيقة البسيطة والواضحة يجرى ترديدها على ألسنة المهمومين بقضية التعليم الذى لم يعد تعليما، ولكن أنصار المجانية لا يتوقفون عن رفع هذا الشعار الذى يرتبط بالايديولوجيا والأوهام متجاوزا الواقع القاسى، والأمر أصبح كالتالى، إما المجانية مع استمرار الانهيار والتردى والاستقرار فى قاع الجهل والتخلف أو الاشتراك فى تحمل مسئولية توفير نسبة من الموارد التى تتطلبها خطط التطوير. وهذا الحل سبق اقترحه كمال حسن على رئيس الوزراء الأسبق، إلا أن الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب اعترض وقال، إن هذا الاقتراح لن يمر إلا فوق جثته، وعاود ترديد إن المجانية هى التى توفر فرصة الدراسة لأبناء الفقراء، وان الإلغاء يعنى قصر التعليم على أبناء الأغنياء. هذا الشعار الايديولوجى المنسوج من الأوهام لا علاقة له بالواقع. فقد هجر أبناء الأغنياء والميسورين وكل من يريد لأولاده تعليما جيدا المدارس الحكومية المجانية وأنشأوا مؤسساتهم التعليمية الخاصة بهم، من مستوى الحضانة وحتى التعليم الجامعى. وهكذا حل الأغنياء والميسورون المشكلة، ولعدة عقود يتلقى جيل الأغنياء تعليما حقيقيا. وقبل أن يحل موعد تخرجهم تكون فى أيديهم عقود عمل برواتب مجزية جدا. فمستواهم العلمى والمعرفى جعلهم أهلا لتحمل مسئوليات العمل فى المؤسسات والشركات الخاصة بل هناك قطاعات حكومية مثل البنوك والبورصة وشبكة الاتصالات وغيرها توفر فى معظم الأحوال فرص عمل لخريجى المدارس والجامعات الخاصة. وفى المقابل فإن خريجى الجامعات الحكومية فى معظمهم بمستواهم المعروف، يقضون السنوات فى انتظار فرصة عمل وأمام تفاقم المشكلة تجددت الجهود من أجل الحد من المجانية. ومن المعروف أن الاقتراب من المجانية لتوفير نسبة من الموارد المالية للدولة يتضمن استمرار التعليم مجانيا فى مراحله الأولى، بعدها يقتصر منح المجانية للمتفوقين. الكل يعرف المشكلة منذ عقود، ويعرف الحل، ولكن المخاوف من إلغاء المجانية والشعارات والأوهام أكبر من القدرة على اقتحامها. وخلال الأسابيع الأخيرة، وردت إشارة إلى قضية المجانية على لسان بعض المسئولين، بعدها قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن، وعاودت القوى نفسها رفع شعارات الفقراء والأغنياء والدستور ونصوصه التى ليست قرآنا، وببساطة هناك أكثر من 43 ألف مدرسة حكومية، تبلغ كثافة الفصل فيها أكثر من مائة تلميذ، ووجود مثل هذا العدد فى فصل واحد لا يعنى له سوى عجز المدرس عن تحمل مسئولياته هذا إذا كان يريد حقا أداء مهمته كمدرس. ومن أجل خفض الكثافة فى الفصل من 100 تلميذ إلى 50 تلميذا ينبغى بناء عدد مساو من الفصول للعدد الموجود حاليا، وهذه هى الاستحالة بعينها، فأى دولة فى العالم لا يمكنها تحقيق مثل هذا الانجاز. وكم هو سهل أن يكتب الكتاب ويردد عدد من السياسيين مطالبين الحكومة بالإنفاق على بناء عدد كاف من المدارس ورفع مستوى المدرسين وتوفير الكتب بمستوى لائق وإعادة النظر فى المناهج لإعداد مناهج عصرية ومتطورة ويمكنهم أيضا المطالبة بملاعب لممارسة الرياضة فى كل مدرسة بالإضافة إلى المعامل، ولكن هؤلاء لا يتوفقون أبدا من أين تأتى حكومة بمثل هذه الموارد؟ فالميزانيات معروفة للجميع وليس بها إطلاقا ما يسمح بتلبية مثل هذه المطالب. لمزيد من مقالات عبده مباشر