كتبت أكثر من مرة عن دور الذكاء الاصطناعى فى الثورة الصناعية الرابعة وآفاق التقدم التى يفتحها فى مختلف مجالات الحياة ونبهنى بعض الأصدقاء إلى ضرورة شرح معنى هذا المفهوم للقارئ حتى تتسع دائرة الفهم وتكتمل الاستفادة. فماذا يُقصد بالذكاء الاصطناعي؟ وإلى ماذا يُشير تعبير الآلات الذكية وغير ذلك من التعبيرات التى تحمل كلمة الذكية كالإدارة الذكية والمطبخ الذكى والتعليم الذكى والهواتف الذكية. الذكاء الاصطناعى هو أحد فروع علم الحاسبات الآلية الذى يهدف إلى إكساب الآلات صفة الذكاء، وجوهره تطوير تطبيقات وآلات تُحاكى قُدرات العقل البشرى أى القدرات الذهنية للبشر بدرجة تماثل هذا العقل بل تتفوق عليه احيانا مُستخدمًة فى ذلك خطوات التفكير المنطقى والمنطق الرياضي. ويتحقق ذلك من خلال خوارزميات وهى مجموعة من الخطوات الرياضية المنطقية والمتسلسلة تستطيع الكشف عن الأنماط المتكررة وتولد الأفكار بناء على البيانات التى تعرض عليها. انطلق هذا الجهد من وصف ذكاء الانسان وتحليله وتفكيكه إلى عناصر وخُطوات منطقية ثُم تصميم برامج آلية تملكُ تلك القُدرات. وتقدم هذا المجال على نحو سريع واستثنائى إلى الدرجة التى أصبح من المتفق عليه أن الذكاء الاصطناعى هو موتور التغييرات المتلاحقة التى يعيشها العالم اليوم، وأصبح هناك من الآلات الذكية ما يُحاكى قُدرات أفضل الخُبراء والمُتخصصين. لم تحدث تلك الطفرة العلمية والتكنولوجية فى زمن وجيز بل استغرقت أكثر من نصف قرن، إذ يعود التفكير فى صنع آلات تُحاكى العقل البشرى إلى ندوة عُقدت فى كلية دارتموث الامريكية فى عام 1956 وقامت الحكومتان الأمريكية والبريطانية بتخصيص ملايين الدولارات للبحث فى هذا المجال، ولكن لم يتحقق انجاز يُذكر حتى حقبة السبعينيات من القرن الماضى فتوقف التمويل. وفى حقبة الثمانينيات، عاد الاهتمام بالموضوع على يد الحكومة اليابانية وانتهى الامر بنفس النتيجة. وكانت نقطة التحول فى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين بعد التقدم فى صناعة أجهزة الحاسب الآلي، مما أغرى الباحثين والشركات والحكومات بالعودة للاستثمار فى مجال الذكاء الاصطناعى وتصميم تطبيقات تمتلك بعض سمات العقل البشري، وسُرعان ما تصدر البحث فى هذا الموضوع جدول أعمال الجامعات ومراكز البحوث والدول التى يأتى فى مُقدمتها -على الترتيب- الصين والولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وألمانيا. بدأ الباحثون بتحليل القُدرات الذهنية للبشر والعمل على تصميم آلات تمتلك تلك القُدرات. كان أول عنصر تم التعامل معه هو الذاكرة، أى القُدرة على حفظ واسترجاع البيانات والمعلومات. ومن أول تجلياتها لدى الانسان القُدرة على الحفظ مثل حفظ القُرآن الكريم أو مئات الأبيات من الشعر العربى والنصوص الأدبية. فتم تصميم النماذج الأولى للحاسب الآلى القادرة على تخزين المعلومات واسترجاعها آليًا. وفى غضون أعوام نمت قدرة الحاسبات على حفظ كميات هائلة من البيانات بكل اللُغات وبشكل يتجاوز قُدرة أى عقل بشرى وظهرت محركات البحث العملاقة وأشهرها جوجل التى تتعامل مع هذا الحجم الهائل من البيانات الكبيرة بيُسر وسُرعة. وهُناك معنى أعمق للذاكرة وهو استرجاع مواقف أو خبرات تعرض لها البشر والمجتمعات والاستفادة منها للتعامل مع موقف مماثل جديد. فتم تصميم تطبيقات ذكية حوَت آلاف الخبرات المتشابهة فى موضوع مُعين ويتم استرجاعها عند الحاجة إليها. مثل التشخيص الطبى للأمراض، وتحديد الدواء اللازم فبدلا من أن يعتمد الطبيب على خبراته السابقة لتشخيص مرض ما واقتراح الدواء فإن الآلة تقوم بهذه المُهمة بشكل أسرع وأدق وبالذات فى الأمراض ذات الأعراض المتشابهة والمُتكررة. كما أن هُناك تطبيقات تُمكن الآلة من التعرف على الأصوات والتمييز بينها وأن تستجيب فقط إلى صوت سيدها أو صاحبها فيما يُعرف باسم بصمة الصوت، وتطبيقات تتعرف على الوجوه. ويلى الذاكرة قُدرة العقل البشرى على التعامل مع المشكلات والتعرف على الحلول المُختلفة لها واختيار أفضلها أو أكثرها مناسبة. فتم تصميم تطبيقات تمتلك قُدرات التعلم والاستنتاج وفحص البدائل المُتاحة والاختيار بينها والقيام بردود الفعل إزاء المواقف المُتغيرة ويدخُل فى ذلك قُدرتها على التمييز بين الموضوعات واستبعاد المعلومات الأقل أهمية أو غير المؤثرة على الموضوع. وفى هذا السياق، تم تطوير تطبيقات قادرة على تحديد الاتجاهات العامة من واقع البيانات الموجودة فى الآلة والتمييز بين تلك الأكثر تكرارًا عن الأُخري. ثُم إن هناك أعلى قُدرات الذكاء البشرى وهى القُدرة على الابتكار والابداع فى مجالات العلوم من ناحية والفنون والآداب من ناحية اُخري، والتى يحظى بها عادة عددُ محدود من الموهوبين والمُبدعين. وهُناك خلاف كبير بين الباحثين حول امكانية تطوير تطبيقات وآلات تمتلك تلك القُدرات فهناك من يرى امكانية ذلك فى بعض المجالات ومن ينكر ذلك تمامًا. كما ان هناك جدلا آخر حول بعض الجوانب السلبية للذكاء الاصطناعى وامكانية ظهور آلات تخرج عن طاعة البشر وهذا موضوع آخر أرجو أن أكتب عنه مُستقبلًا. ما يهمنا الآن هو ما تم تحقيقه وانجازه بالفعل، ويوجد حولنا مئات التطبيقات التى نستخدمها فى حياتنا اليومية والتى تعتمد على الذكاء الاصطناعي. لذلك فقد أحسن الرئيس السيسى صنيعًا فى تكليفه الدكتور خالد عبد الغفار وزير التعليم العالى والبحث العلمى بتنظيم مؤتمر علمى يشارك فيه علماء من الخارج لمناقشة الموضوعات المتعلقة بهذا الشأن و الذى عقد فى 4 ابريل 2019. وأرجو أن يكون انعقاد هذا المؤتمر وما وصل إليه من نتائج هو ركيزة لخطة عمل وطنية تشارك فى تنفيذها مؤسسات الدولة والمجتمع. فتقوم وزارتا التعليم والتعليم العالى بتعليم الذكاء الاصطناعى للطلاب واستخدامه فى العملية التعليمية، وأن تقوم أكاديمية البحث العلمى والهيئات المماثلة بالمُساهمة فى تطوير وتوطين بحوث الذكاء الاصطناعي، وأن يقوم المسئولون عن الصناعة والخدمات والزراعة الحديثة فى الحكومة والقطاع الخاص بالتأكد من استفادة الاقتصاد المصرى من طفرة الذكاء الاصطناعى فى العالم. ولدى اقتراح مُحدد أستوحيه من تجربة فنلندا التى أعلنت برنامجا لتعليم مهارات استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحياة اليومية ويستهدف البرنامج فى مرحلته الاولى نسبة 1% من السكان وذلك باستخدام مناهج تدريس على الانترنت «أونلاين». و اقتراحى هو الاستفادة من هذه التجربة فى مصر وأن تتبنى الدولة مشروعا مماثلا. وفى هذا فليتنافس المتنافسون. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال