كتبت في هذا المكان أكثر من مرة عن الثورة الصناعية الرابعة التي تجتاح العالم وتطرح تأثيراتها على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وتُراجع صحة عديد من الأفكار والنظريات الشائعة بين الناس, وتفتح آفاقًا جديدة للعلاقات الاجتماعية بين البشر وللعلاقة بين الانسان والطبيعة. وأن تلك التأثيرات تحدث تحت تأثير التقدم التكنولوجي المطرد وفي قلبه تزايد قدرات الذكاء الاصطناعي. وفي مجال التحليل السياسي استخدم الذكاء الصناعي لتخزين مئات الآلاف من تصريحات قادة الدول والمسئولين وتحليلها لإظهار تطور موقف رئيس دولة ما تجاه موضوع مُعين ومدى الاتساق أو التناقض في تصريحاته ولقياس درجة قبوله أو رفضه لاتجاه ما. كما استُخدم في برامج للمُساعدة في اتخاذ القرارات السياسية والاختيار بين عشرات البدائل المتاحة لحل مشكلة أو أزمة ما وتحديد التكلُفة النسبية لكل بديل وذلك في ضوء البيانات المُتاحة. ومناسبة هذا الحديث هو ما اخبرنى به مهندس شاب يعمل فى مجال تكنولوجيا المعلومات عن كتاب جديد وفريد من نوعه. وعندما تعقبت الخبر عرفت ان دار نشر بريطانية اصدرت كتابا لم يؤلفه انسان وإنما نتاج برامج الذكاء الاصطناعي, الدارُ هي سبرنجر نيتشر وهي دار مُتخصصة في الكُتب العلمية وتحتفظ بقاعدة بيانات كبيرة لها. أما الكتاب فإنه يحمل عنوان بطاريات أيون-الليثيوم وعنوانه الفرعي تلخيص للأبحاث المنشورة في هذا الموضوع تم توليده آليًا. ويُشير غلافه إلى أنه من تأليف BETA (أو الكاتب الخفي) وهو تعبير يُقصد به خوارزمية تعلم آلة ويقع في 247 صفحة. الذي يتضمن عرضًا وتحليلًا لآلاف البحوث في هذا الموضوع وتلخيصها والمقارنة بينها, ويشمل اقتباسات ووصلات مع مواقع وروابط خارجية. تكمن أهمية هذا الانجاز في أن أي بحث علمي لابد أن يبدأ باستعراض الدراسات السابقة وما وصلت إليه من خلاصات حتى يبدأ منها ويُراكم عليها. وهذه الأبحاث عادة ما تكون بالمئات والآلاف وبلُغات مختلفة، مما يجعل منها مهمة شاقة وثقيلة وتستغرق وقتًا طويلًا ولكنه لابد منها. وعلى سبيل المثال, ففي موضوع البطاريات الذي تناوله الكتاب صدر عدد ثلاثة وخمسين ألف بحث في السنوات الثلاث الأخيرة. الآن يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقوم بهذه المهمة، وأوضح انجاز هذا الكتاب قُدرة الآلات الذكية على تغطية هذا العدد الهائل من البحوث وتلخيص ما توصلت إليه من نتائج للباحثين وتقسيمها الى فصول وعمل قائمة بالمحتويات. تحقق ذلك من خلال تصميم خوارزميات - وهي تعني مجموعة من الخطوات الرياضية المنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما- تتمكن من الاطلاع على أعداد هائلة من البحوث والدراسات والتركيز على العناصر الأكثر أهمية فيها ذات الصلة بموضوع البحث. وهي الخوارزمية التي طورها أساتذة جامعة جوتة الألمانية التي اسست عام 1914 في مدينة فرانكفورت وحصل 18 من أساتذتها على جائزة نوبل. وكما ذكر الأستاذ شادي عبد الحفيظ وهو أحد شباب المهتمين بهذا الموضوع وما ورد فى موقع لا فيرج الأمريكي المتخصص في الصحافة التكنولوجية أن الخوارزمية التي طبقت في تأليف هذا الكتاب تم تطويرها في مشروع للسانيات الحسابية التطبيقية بواسطة فريق بحثي من جامعة جوتة بقيادة دكتور كريستان تشياركوس باستخدام قاعدة بيانات دار نشر سبرنجر نيتشر. وأن هذه الخوارزمية لا تقوم بتجميع كُل ما تطلع عليه, وإنما تنتقي المعلومات الأساسية المُتعلقة بالموضوع الذي تبحث فيه وفقًا لأدوات التحليل المستخدمة, ثُم تقوم بصياغتها حسب قواعد اللغة المُستخدمة, والربط بينها بما يُعطيها معنىً ودلالة. كما تقوم تلقائيًا بإنشاء مقدمات وجداول ومصادر ذات روابط خارجية. أي أنها تكتب المصادر بلون أو شكل مُختلف بحيث يستطيع القارئ إذا ضغط عليها أن تحيله إلى النص الكامل لتلك المصادر التي تمت الاشارة إليها. وبالطبع فإنه مع الاحتفاء بهذا الانجاز التكنولوجي المبهر فإنه يجب ألا ينسينا حقيقة أن الآلة التي تقوم بهذا العمل تفعله وفقًا للخوارزمية التي تم برمجتها وفقًا لها, وأنها لا تفهم ما تقوم بانتقائه وتصنيفه وترتيبه. وأن الآلات التي تقوم بذلك لا تستطيع حتى الآن التعامل مع الجمل الطويلة أو ذات التركيب المُعقد أو النصوص الأدبية والشعرية. ولكنه مهم جدًا للباحثين في مجال التعرف على الأدبيات السابقة وتحليلها وعرض أهم نتائجها. يؤكد ذلك الجُملة التي كتبها الباحث روس جودوين ووردت في مقدمة الكتاب من أن عندما نُعلم الحواسب الآلية الكتابة, فإنها لا تحل محلنا كما أن آلة البيانو لا تحل محل العازف عليها, فالآلات بمعنى ما تُصبح أقلامنا أي يظُل الانسان هو العُنصر المؤثر عليها. والمعنى الواضح هُنا أن ذكاء الإنسان بما يمتلكه من قُدرات ابتكارية وابداعية لا يُمكن لآلات الذكاء الاصطناعي أن تُحاكيه, ولكنها في الوقت ذاته قادرة على انجاز عشرات ومئات المهام ما دون ذلك بشكل يفوق قدرة الانسان. ليس سرًا أنني لستُ متخصصًا في موضوع هذا المقال وأنني أبذل جهدًا في تجميع بياناته واتعلمُ جديدًا من هذا الجهد. ولكني أحرص على ذلك لإشاعة الثقافة العلمية في بلادنا التي هي أساس كل تقدم, وللتعريف بحجم التقدم التكنولوجي الذي حققته دول أُخرى كثيرة وضرورة الانفتاح والتعلم مما يجري فيها, واستنهاض التفكير في المستقبل والتخفيف من وطأة الماضوية الجاثمة على عقولنا ونفوسنا في كثير من المجالات ولحث من هُم أكثر مني معرفة وتخصصًا للتصدي بالكتابة في هذه الموضوعات. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال