رئيس الثروة السمكية الأسبق: البردويل خط أحمر.. وتعميقها وفقا للمقترح الهولندي يدمرها    «مياه المنيا» تشارك بندوات توعية في المبادرة الرئاسية «بداية»    ويكيبيديا تثير الجدل فى تركيا لوصفها سكان قرية تافشان تيبي بعديمي الأخلاق والقتلة    زيزو يقود هجوم الزمالك أمام الشرطة الكيني في الكونفدرالية    نائب وزير الصحة يزور مستشفى دراو المركزى وقريتى بنبان والرقبة (صور)    وفاة منصور عبد الغني صاحب المشهد الشهير في فيلم عسكر في المعسكر    إعلام فلسطيني: 13 شهيدا فى غارة إسرائيلية على منزلين برفح الفلسطينية    قصائد دينية.. احتفالات «ثقافة الأقصر» بالمولد النبوي    آية الكرسي: درع الحماية الروحية والنفسية    أذكار المساء والنوم.. تحفظ المسلم وتقيه من الشرور    حملة «100 يوم صحة» تقدم أكثر من 80 مليونا و48 ألف خدمة طبية خلال 50 يوما    «مالوش علاج».. كيف تساعد القهوة في الوقاية من هذا المرض الخطير؟    تفاصيل التحقيق مع صلاح الدين التيجاني حول اتهامه بالتحرش    إقبال ضخم على البرامج المتميزة والجديدة بجامعة القاهرة    الجيزة تحتفل بعيدها القومي    غدًا.. انطلاق الدراسة في 214 مدرسة ببني سويف    على رأسهم صلاح.. أفضل 11 لاعبا للجولة الخامسة من فانتازي الدوري الإنجليزي    "اعتذار عن اجتماع وغضب هؤلاء".. القصة الكاملة لانقسام مجلس الإسماعيلي بسبب طولان    مصر للطيران تكشف حقيقة وجود حالات اختناق بين الركاب على رحلة القاهرة - نيوجيرسي    دعاء يوم الجمعة: نافذة الأمل والإيمان    تشييع جثامين ثلاثة شهداء فلسطينيين ارتقوا خلال عدوان الاحتلال على قباطية بالضفة الغربية    واقف قلقان.. نجل الشيخ التيجاني يساند والده أمام النيابة خلال التحقيق معه (صور)    وزير المالية: معدل الدين الداخلي للموازنة انخفض 4.7% بنهاية العام المالي الماضي    وزير الأوقاف يشهد احتفال "الأشراف" بالمولد النبوي.. والشريف يهديه درع النقابة    جمعية الخبراء: نؤيد وزير الاستثمار في إلغاء ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة    بالصور- 500 سائح يستعدون لمغامرة ليلية على قمة جبل موسى من دير سانت كاترين    إطلاق الإعلان التشويقي الرسمي لفيلم بنسيون دلال    نجم ليفربول يرغب في شراء نادي نانت الفرنسي    روسيا: تفجير أجهزة ال"بيجر" في لبنان نوع جديد من الهجمات الإرهابية    فاينانشيال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم تمويل قرض بقيمة 35 مليار يورو لأوكرانيا    أجندة ساخنة ل«بلينكن» في الأمم المتحدة.. حرب غزة ليست على جدول أعماله    الإفتاء تُحذِّر من مشاهدة مقاطع قراءة القرآن المصحوبةً بالموسيقى أو الترويج لها    بعد الموجة الحارة.. موعد انخفاض الحرارة وتحسن الأحوال الجوية    ضوابط شطب المقاول ومهندس التصميم بسبب البناء المخالف    طريقة عمل بيتزا صحية بمكونات بسيطة واقتصادية    "بداية".. قافلة طبية تفحص 526 مواطنًا بالمجان في الإسكندرية- صور    بتكلفة 7.5 مليون جنيه: افتتاح 3 مساجد بناصر وسمسطا وبني سويف بعد إحلالها وتجديدها    مفتي الجمهورية يشارك في أعمال المنتدى الإسلامي العالمي بموسكو    سهر الصايغ تشارك في مهرجان الإسكندرية بدورته ال 40 بفيلم "لعل الله يراني"    سكرتير عام مساعد بني سويف يتفقد سير أعمال تعديل الحركة المرورية بميدان الزراعيين    الزراعة: جمع وتدوير مليون طن قش أرز بالدقهلية    لجنة "كوبرا" بالحكومة البريطانية تبحث تطورات الوضع فى لبنان    خبير تربوي: مصر طورت عملية هيكلة المناهج لتخفيف المواد    رئيس جهاز العبور الجديدة يتفقد مشروعات المرافق والطرق والكهرباء بمنطقة ال2600 فدان بالمدينة    الأنبا رافائيل: الألحان القبطية مرتبطة بجوانب روحية كثيرة للكنيسة الأرثوذكسية    «الداخلية» تنفي قيام عدد من الأشخاص بحمل عصي لترويع المواطنين في قنا    سوء معاملة والدته السبب.. طالب ينهي حياته شنقًا في بولاق الدكرور    مستشفى قنا العام تستضيف يوما علميا لجراحة المناظير المتقدمة    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام ضمك.. توني يقود الهجوم    عبد الباسط حمودة ضيف منى الشاذلي في «معكم».. اليوم    بلغاريا تنفي بيع إحدى شركاتها لأجهزة بيجر المستخدمة في انفجارات لبنان    تراجع طفيف في أسعار الحديد اليوم الجمعة 20-9-2024 بالأسواق    رابط خطوات مرحلة تقليل الاغتراب 2024..    استطلاع رأي: ترامب وهاريس متعادلان في الولايات المتأرجحة    نجم الزمالك السابق يتعجب من عدم وجود بديل ل أحمد فتوح في المنتخب    حبس سائق ميكروباص تسبب في مصرع طالبة بعد دهسها في أبو النمرس    ليس كأس مصر فقط.. قرار محتمل من الأهلي بالاعتذار عن بطولة أخرى    مصطفى عسل يتأهل لنصف نهائي بطولة باريس المفتوحة للإسكواش 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مأساة «بحر البقر» تحكى أحزانها..
49عاما على المجزرة الإسرائيلية.. الدرس انتهى «لموا الكراريس»

* 5 طائرات أطلقت 5 قنابل وصاروخين لتدمير مدرسة تضم 3 فصول.. والنتيجة: استشهاد وإصابة 69 تلميذا
* أحمد الدميرى: نجوت بسبب «قلم رصاص».. والسادات وأم كلثوم زارانا فى المستشفى

* أم الشهيد ممدوح حسنى لا تملك صورة له .. خرج يومها للمدرسة وقال لى «أنا مش راجع تانى»
* إسرائيل بررت المذبحة بأن المدرسة كانت «هدفاً حربياً» والتلاميذ يقومون بتدريبات عسكرية!

الحرب العالمية الثانية كانت هى الأكثر دموية فى التاريخ.. وخلالها حاصر الألمان مدينة ليننجراد الروسية وقتلوا خلال 872 يومًا ما يقرب من مليون شخص، ورغم ذلك لم يقتربوا نهائياً من مدرسة لتعليم الباليه كانت تضم 200 طفلة، وحسب تعبير الكاتب الكبير أنيس منصور «فإن أحداً لم يبلغ به الانحطاط لأن يهدم مدرسة»، ولكن فى يوم الثامن من أبريل عام 1970 ظهر بالفعل من بلغ به الانحطاط لارتكاب هذه الجريمة، فقد خرج عشرات الأطفال فى طريقهم للمدرسة الابتدائية بقرية «بحر البقر» فى مركز الحسينية بمحافظة الشرقية، كان الصباح يبدوهادئا.. لكن فجأة هبت رياح الغدر العاتية عبر طائرات الفانتوم الإسرائيلية التى قامت بتدمير المدرسة فوق رءوس تلاميذها، ومنذ 49 عاماً ومازالت نيران أهإلى الشهداء مشتعلة وجراحهم تنزف.. وبين سطور الحكاية تفاصيل تبوح بأسرار كفيلة بأن تبقى ملف هذه الجريمة مفتوحاً.
بعد إعلان قوانين اﻹصلاح الزراعى وتوزيع قطع اﻷراضى على الفلاحين، تم إنشاء شركة صان الحجر للاستصلاح الزراعى والتى قامت بتوزيع آلاف الأفدنة فى منطقة «بحر البقر» على الفلاحين الذين أتوا إليها من كل مكان لزراعة اﻷرض والسكن بجانبها، وبمرور الوقت انقسمت المنطقة إلى مجموعة قرى كان يشقّها «مصرف بحر البقر» وجميعها تسمى بحر البقر مصحوبة برقم من 1 إلى 7، وقرية «بحر البقر 2» التى شهدت هذه المجزرة. مدرستها رغم مساحتها الكبيرة كانت عبارة عن مبنى من دور واحد يضم ثلاثة فصول، وشنت 5 طائرات إسرائيلية من طراز «إف-4» فانتوم هجوماً ألقت خلاله 5 قنابل ضخمة وصاروخين، وكان عدد تلاميذ المدرسة نحو 130 طفلاً كلهم بين سن السادسة والثانية عشرة، ومن حسن الحظ أن عدد الحضور يومها كان 86 تلميذاً فقط استشهد منهم 19 تلميذا وأصيب 50 آخرون معظمهم بعاهات مستديمة، بالإضافة لاستشهاد وإصابة عدد آخر من المدرسين والأهإلى، ونددت مصر وقتها بالحادث ووصفته بأنه «عمل وحشى يتنافى تمامًا مع كل الأعراف والقوانين الإنسانية»، بينما ادعت إسرائيل أنها هاجمت «أهدافًا حربية» وأن المدرسة – حسب أكاذيبهم - كانت عبارة عن منشأة عسكرية سرية، بل وزعمت أن أطفال المدرسة كانوا يتلقون تدريبات عسكرية، وهونفس ما سبق وادعته إسرائيل قبلها بشهرين فى فبراير 1970 عندما أغارت على مصنع أبى زعبل وقتلت 70 عاملا وأصابت العشرات، ولكن الطيار الإسرائيلى «آمى حاييم» والذى تم أسره فى حرب 1973 اعترف بأنهم كانوا يعلمون بأن «بحر البقر» مدرسة للأطفال ولكنهم أرادوا توصيل رسالة للمصريين بأن أطفالهم هم ثمن جديد سيدفعونه، تلك هى أجواء هذا الحادث المأساوى الذى مازال يلقى بظلاله الحزينة على أهإلى القرية، وقد توجهنا فى البداية نحوموقع المدرسة التى تعرضت للقصف الوحشى وشهدت هذه المجزرة، لكننا وجدنا أطلالا فى مساحة صغيرة يتوسطها «نصب تذكارى» عليه أسماء 19 طفلا ممن نالوا الشهادة فى هذه الضربة الغادرة، ووقت زيارتنا كان بعض الأهإلى بجهودهم الذاتية يقومون بتشييد سور حوله بعدما كان راسخاً فى العراء طوال هذه السنوات الطويلة، بينما بقية مساحة المدرسة الأصلية تحولت إلى بيوت عشوائية بدون مراعاة للذكرى التاريخية للمكان، كما توجد وحدة صحية على مساحة نصف فدان تقريباً تضم مبنى من 3 أدوار كان مفترضاً أن تصبح مستشفى مركزياً ولكن لسبب غير معروف تحولت إلى مركز لصحة المرأة يزوره طبيب واحد «ممارس عام» كل 3 أيام.
التلميذ الذى نجا
القرية تمت تسميتها بعد الحادث ب «الشهداء» لكنها مازالت معروفة بين الأهإلى باسمها القديم «بحر البقر»، أحمد على الدميرى، 57 سنة، كان أحد تلاميذ المدرسة وعاش رعب القصف وشاهد الموت بعينيه ونجا منه بأعجوبة، يروى حكايته قائلاً: وقتها كنت فى الصف الثانى الابتدائى، كان عندى 7 سنوات وأتذكر جيدا ما حدث كأنه اليوم، كانت الحصة الأولى فى تمام التاسعة صباحا و20 دقيقة، وكانت حصة حساب والأستاذ كان أسمه محمد وهومن الشرقية وأستشهد مع باقى زملائى، وكنت أجلس فى الفصل بجانب صديقى أحمد عبدالعال السيد، وفجأة شعرنا بهزة شديدة ترج المدرسة كأنه زلزال فسقط قلمى الرصاص أسفل «التختة» فنزلت أسفل المنضدة للبحث عنه، وفى اللحظة نفسها وقع علينا سقف المدرسة ولم اشعر بنفسى غير بعدها ب 25 يوماً وأنا راقد على سرير فى مستشفى الحسينية العام وبجوارى أمى وأبى والعشرات من زملائى المصابين، وعرفت بعدها أن زملائى الذين كنت قبل الحادث بثوانى أتناول معهم الإفطار خرجوا من أسفل الأنقاض أشلاء، وحكى لى والدى أن الجثث والمصابين كانوا يضعون على جرار زراعى فوق بعضهم والدم يتساقط كالشلال، وخلال وجودى بالمستشفى زارنا نائب الرئيس وقتها أنور السادات والسيدة أم كلثوم، والقرية وقتها كانت صغيرة جدا وكل أهلها من الوافدين من محافظات قبلى وبحرى، وبعد نكسة 1967 كانت القرية قريبة جدا من القناة أوخط النار كما كان يطلق عليها وقتها، وكان كل بيت فى القرية يحفر خندقاً بجواره له بابان، أحدهما للدخول مع بدء الغارات والثانى للخروج بعد انتهاء الغارة، لكن لم نتخيل أن وحشيتهم ستصل إلى حد ضرب مدرسة ابتدائى، وحتى اليوم ورغم أننى والحمد لله نجوت ولكننى مازلت أعانى صحياً بسبب كسور فى الجمجمة، وكل عام فى يوم 8 أبريل تتجدد حالة الحزن والسواد فلا يوجد بيت فى القرية لم يكن له تلميذ مصاب أوشهيد فى مدرسة «بحر البقر».
يقول الحاج محمد فاضل 70 عاماً وهومن أهإلى قرية بحر البقر الذين شهدوا الحادث: يوم 8 أبريل كل سنة ينزف جرحنا وكأن الحادث وقع منذ أيام ولم يمر عليه نحونصف قرن، منذ عدوان 1967 وطوال حرب الاستنزاف كنا نعيش فى رعب دائم لأننا أول قرية مصرية بعد القنطرة وقناة السويس ولذلك كانت الطيارات الإسرائيلية تحوم فى سماء «بحر البقر» ليل نهار، ورغم ذلك لم نترك أراضينا التى حصلنا عليها بعدما كنا معدمين، وفى «اليوم المشئوم» الأمور كانت عادية ولكن فجأة شاهدنا فى سماء القرية طيارات الفانتوم الإسرائيلية وهى تهبط لمستوى البيوت وتلقى بالقنابل والصواريخ على المدرسة وورشة لإصلاح الآلات الزراعية بجانبها، كان المشهد مرعباً مع صوت الانفجار وفى لحظات سقطت المدرسة بالكامل وانهارت أسقف البيوت ونوافذها، وقتها كانت حياتنا بسيطة وبلا أى إمكانات لدرجة أننا كنا نحمل الجثث وأشلاءها والجرحى على الجرارات وسيارات النقل لنقلهم لمستشفى الحسينية العام، وزارنا بعد ذلك الرئيس جمال عبدالناصر وعدد كبير من المسئولين.
أم الشهيد
اثنتان فقط من أمهات الأطفال الشهداء مازالتا على قيد الحياة، فى البداية قابلنا الحاجة نبيلة على محمد، 78 عاماً، وهى والدة التلميذ الشهيد ممدوح حسنى صادق، الوجع الذى يسكن قلبها يستتر خلف تجاعيد الزمن القاسية، وبمجرد أن سألناها عن ابنها تنهدت طويلاً.. وقالت: جئت مع زوجى من المنصورة عام 1960 وتسلمنا من الرئيس عبدالناصر 3 فدادين وبيتاً بسيطاً، وبعدها ب 6 سنوات توفى زوجى وترك لى 5 أولاد أصغرهم ممدوح، كان عمرى 25 عاماً ولكننى رفضت الزواج ووهبت عمرى لتربية أولادى وتعليمهم، وكان ممدوح فى الصف الثانى الابتدائى، أتذكر ما حدث كأنه اليوم.. كنا يوم أربعاء وصحوت من نومى لأخبز لأولادى.. لكن ممدوح قال لى «انا مش راجع.. والله ما راجع»، وبعدما سمعته انقبض قلبى ووقفت على باب البيت لأراقبه حتى دخل باب المدرسة القريبة منا ثم عدت للجلوس أمام الفرن، وفجأة سمعت صوت الطائرة الفانتوم ثم انتهى كل شىء، كان الانفجار مرعبا لكن همى الوحيد هوابنى، خرجت أجرى وسط الدخان فوقعت على وجهى.
محررا الاهرام مع والدى احد ضحايا بحر البقر
ومن يومها وأنا فقدت حاسة الشم، ورأيت مناظر صعبة جداً ظللت سنوات لمجرد تخيلها يغمى على، فقد رأيت أباء وأمهات يحملون أجزاءً من أجساد أولادهم، أما أنا ووسط تلال التراب والغبار شاهدت أصعب واقسى مشهد يمكن أن يتحمله قلب أم.. وجدت رجلين أحدهما يحمل ابنى ممدوح غارقاً فى دمائه والآخر يحمل قدمه التى انفصلت عن جسده، فأحضرت «بالطو قديما» ووضعته فيه.. كنت أجمع بقايا أبنى مثل بقية أهل القرية، كل هذا والطائرة تحوم فوق رؤوسنا، كانت الشوارع كلها شظايا وحفر وخراب ودخان وأتربة والناس تجرى.. من يصحو فجأة من نومه يخيل له وكأنه «يوم القيامة»، ورغم أننا عشنا أياماً صعبة حتى نصر أكتوبر 1973 لكن لم أفكر لحظة فى ترك أرضى والهرب بأولادى، وكنت أقف مع الأهإلى عندما زارنا الرئيس عبدالناصر وسمعته وهويتفقد موقع المدرسة يسأل واحداً من المحيطين به: هل هذا الذى على الأرض كبد أحد الأطفال؟! فرد عليه «لا سيادة الرئيس هذا دم معقود من البرد»، ورغم مرور 49 عاماً على الحادث لكن الوجع والحسرة والألم يعيشون معنا، خاصة بعدما فقدت ابنا آخر فى حادث، ورغم أن أموال الدنيا لن تعوضنا عن أموالنا لكن وقت الحادث الرئيس عبدالناصر صرف لأسرة كل شهيد 100 جنيه.
أكثر ما يؤلم الحاجة أم ممدوح ليس فقط فقدانها لابنها.. ولكنها أيضاً لا تملك أى صورة له وبالتإلى بقية إخوته وأولادهم وأحفادهم يسمعونها ليل نهار تروى حكاية ابنها ولكنها وحدها التى تعرف ملامحه، ودعناها وهى تمسح دموعها وذهبنا لزيارة الحاجة رفعة مجاور عسر، 85 عاماً، ورغم معاناتها من النسيان ولكن بمجرد أن تشاهد «بطاقة الشهيد» وصورة ابنها الشهيد جبر عبدالمجيد تتذكر بعض تفاصيل هذا اليوم الأليم، تقول: جبر كان «أبن موت».. مختلفا عن بقية أخوته وكان أجملهم وأذكاهم ودائماً حزينا، كان عمره 7 سنوات يوم الحادث وذهب للمدرسة ومعه أخوه وعمره وقتها 5 سنوات، وبلا سبب وعلى غير العادة رفض أنه يأخذ مصروفه نهائياً وقال لى «مش هعمل بيه حاجة»، وكان شقيقه الصغير يبكى فعاد به وقال لى «اتركيه يجلس معك فى البيت» ثم عاد للمدرسة، بعدها سمعنا صوت الانفجار، كل أهل البلد خرجوا من الغيطان والبيوت فى اتجاه المدرسة، ووسط الأنقاض وجدنا بقاياه ضمن التلاميذ الذين استشهدوا.
وهنا صمتت الحاجة أم جبر وعادت مرة أخرى لنسيانها.
رائحة الموت
ربما كان الأطول عمراً فى مصر، الحاج عبدالعال السيد من مواليد 1914 أى أنه أكمل عامه الخامس بعد المائة، ابنه «أحمد» كان وحيداً على 5 بنات وأنجبه وعمره 50 عاماً، رغم معاناته من أمراض الشيخوخة وشلل فى جانبه الأيسر وضعف السمع.
لكن ذاكرته قوية وتحتفظ بكل تفاصيل ما حدث يوم 8 أبريل 1970، يقول: قبل الحادث بيوم الولد كان يبكى ولا يريد أن يذهب للمدرسة مرة أخرى، سألته عن السبب فقال أن أحد زملائه يضربه ليأخذ منه قلمه، فقلت له أننى سأذهب معه فى اليوم التإلى لأشكوللمدرس، وفعلا ذهبت به للمدرسة واشتريت له قلماً جديداً ثم شكوت للمدرس ومشيت، بعد أقل من 300 متر سمعت صوت طيارتين ووقفت مرعوباً لأنهما على ارتفاع منخفض جداً، وشاهدت بعينى الصواريخ وهى تضرب المدرسة وتقتل ابنى وزملاءه، وأنا أجرى فى اتجاه المدرسة اصطدمت بعامود خشبى وأغرقت الدماء وجهى، ومثل بقية الأهإلى نبشت بيدى بين الأنقاض معهم وفى النهاية عثرت على ابنى الله يرحمه، ورغم أن العمر أمتد بى وشاهدت كل من حولى وهم يغادرون واحداً بعد الآخر.. لكننى لم أشعر بمرارة الفراق مثلما حدث مع أحمد لأنه مقتول غدراً وبلا ذنب.
متحف الشهداء
مدرسة «بحر البقر» فى الأصل كانت مجموعة من الاستراحات الخاصة بشركة الاستصلاح الزراعى، وتم تحويلها إلى مدرسة فقط قبل الحادث ب 4 أشهر لخدمة الأهإلى، وبعد تجميع ملفات الطلاب المنقولين من مدارس أخرى بدأت الدراسة فيها فى الصفوف الأول والثانى والخامس الابتدائى فقط، وكما يؤكد لنا صلاح حلمى إبراهيم أحد المشرفين على جمعية تنمية المجتمع بالقرية فإن المدرسة الجديدة التى تم إنشاؤها بعد الحادث حملت اسم «شهداء بحر البقر»، وهى موجودة فى مكان آخر، وفى الطابق الثانى تضم غرفة بمثابة «متحف» يحتوى على مجموعة من متعلقات التلاميذ الشهداء، منها كراسة «واجب الحساب» لأحد التلاميذ من الصف الثالث، ومريلة تحمل بقع دماء، وعدد من الأحذية الممزقة، وبعض الكتب الدراسية وبقايا أقلام رصاص ومساطر وأساتيك، كما تضم أيضا عددا من لعب الأطفال والعرائس سواء التى كانت مع بعض الشهداء أوالتى أهدتها الوفود التى زارت القرية فيما بعد للتلاميذ المصابين والناجين من الحادث، هذا إلى جانب بعض الشظايا وجزء من جسم الصاروخ الذى ضرب المدرسة، وقطع متناثرة من لوحات وأوراق وشهادات ميلاد الأطفال، بالإضافة إلى بعض الصور للرئيسين عبدالناصر والسادات، ولوحة جدارية وصور للحادث وصور أخرى لإسعاف المصابين وإنقاذهم.
النصب التذكارى
مشاكل مستمرة
القرية يتذكرها الجميع يوم 8 أبريل ويقابلون أهلها بالوعود.. ثم لا شىء، فلا يوجد صرف صحى باستثناء مناطق بسيطة وبجهود ذاتية من الأهإلى، تفتقد إلى المياه النظيفة وهوما تسبب فى إصابة العشرات بالفشل الكلوى واضطرارهم لشراء جراكن المياه الصالحة للشرب، يقول أحمد قناوى وهومن أهإلى القرية الذين شهدوا الحادث منذ 49 عاماً: معظم وسائل الإعلام ركزت وقتها على ضحايا المدرسة من الأطفال رغم وقوع شهداء آخرين فى هذا الهجوم سواء من المدرسين أوعمال الورشة الزراعية أوالأهإلى الذين تصادف وجودهم فى المكان، وكنا نتمنى بعد الحادث أن يتحول مكان المدرسة إلى متحف أومزار ما لتسجيل هذه الجريمة ولكن لأسباب كثيرة فوجئنا بالبعض يقوم بالبناء على أرض المدرسة القديمة ولم تتبق سوى هذه المساحة الصغيرة لنضع عليها «نصب الشهداء»، ونحن نعانى نقصا حادا فى كل الخدمات والمرافق، ولكن هذا لم يجعلنا يوماً واحداً ننسى شهداءنا وننظم فى جمعية تنمية المجتمع احتفالاً سنوياً يوم 8 أبريل نكرم فيه أسماءهم وأسرهم وبعض الجرحى الذين مازالوا على قيد الحياة.
الدرس انتهى
بعد مرور 43 عاماً على الحادث وتحديدا فى أكتوبر 2013 قام العديد من ضحايا الحادث برفع دعوى قضائية للمطالبة بتعويض أسر شهداء ومصابى هذه المجزرة مادياً ومعنوياً، وأكدت الدعوى أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تخضع لقوانين ثابتة، وأن حق الضحايا لا يسقط بالتقادم، ورغم مرور 6 سنوات ولا جديد فى الأمر لكن الأهإلى مازالوا يتمسكون بالبحث عن حقوقهم.. وإذا لم يسعفهم الزمن فوصيتهم لأبنائهم أن يواصلوا رواية حكايتهم من بعدهم، تركنا القرية ونحن نتذكر فيلم «العمر لحظة» عام 1978 تأليف يوسف السباعى والذى تضمن أغنية «بحبك يا بلادى» التى تحدثت عن ضحايا الحادث وهى من كلمات فؤاد حداد وتلحين بليغ حمدى، لكن تظل أهم القصائد التى عبّرت عن هذا الحادث تلك التى كتبها الشاعر صلاح جاهين وغنتها شادية وتقول كلماتها: الدرس انتهى لِمُّوا الكراريس، بالدم اللى على ورقهم سال، فى قصر الأمم المتحدة، مسابقة لرسوم الأطفال، إيه رأيك فى البقع الحمرا، يا ضمير العالم يا عزيزى، دى لطفلة مصرية وسمرا، كانت من أشطر تلاميذى، دمها راسم زهرة، راسم راية ثورة، راسم وجه مؤامرة، راسم خلق جبارة، راسم نار، راسم عار، ع الصهيونية والاستعمار، والدنيا اللى عليهم صابرة، وساكتة على فعل الأباليس، الدرس انتهى لموا الكراريس.
مدرسة بحر البقر
صور ارشيفية من تصوير محمد لطفى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.