أعرف أين أجده دائمًا. القمر فى السماء وهو تحت شجرة التوت.كان جالسًا بانحناءته الخفيفة وكتفيه مضمومتين إلى الداخل، أسفل جذعهاالملتوى. لا أنسى شقاوة الصباهنا، القفز والمرح والصياح بين أفرعها الخشنة. مازال لمذاق حبات توتها الأبيض ذكرى فى فمى. شاخت الشجرة وتهدلت أفرعها لكنها مازالت قادرة على نشر ظلالها فى دائرة واسعة فوق ماكينة الرى. ماكينة الرعب.كنتُ أسمع هديرها فى طفولتى رغم أن بيتنا على الضفة الأخرى للنهر. تكتكاتها فى الليل أصوات شيطانية تشرب دم الأطفال. أسمعها فيرتجف قلبى وتدفعنى إلى الاختباء تحت لحافى. هل يظل العم بديع جالسًا هكذا فى الليل أيضًا؟ وسط فحيح هذه الأصوات الشيطانية! عم بديع لا يملك أرضًا ولا يزرع قطنًا وأرزًا مثل غيره من الفلاحين. كان يسكن فى كوخ نصفه من القش والنصف الآخر من الحجارة والطمى المجفف. كان الكوخ يقع وراء الماكينة مباشرة. وكلما سقط قرص الشمس القانى خلف رءوس النخيل العالى كان الفلاحون يسحبون أبقارهم وأولادهم عائدين إلى بيوتهم على ضفة النهر. وحده كان العم بديع يجرجر خطواته فى اتجاه كوخه المعتم. فى الصباح الباكر كان يُرى مثل شبح فى الضباب وهو يتمشى قليلًا بمحاذاة النهر مراقبًا منسوب المياه. بسبب أجمات البوص وأفرع الصفصاف المتدلية على سطح الماء، كانت جثة بقرة أو جاموسة نافقة تعلق أمام مدخل الماكينة، فكان ينهض بهدوء ساحبًا عصا خشبية طويلة تنتهى بخطاف معقوف، أعدها خصيصًا لتخليص الجيفة كى تمضى فى حال سبيلها مع اندفاع النهر. بعد وفاة عمى الكبير بأسبوع، رأيت العم بديع جالسًا كعادته تحت شجرة التوت. كان يميل بجسده، مرة كى تصل إليه أشعة الشمس الدافئة، ومرة كى يحتمى بالظلال ونسمة الهواء. كنت أضرب برجلى العاريتين فى مياه المسقى الجارية. وعندما تضحك المياه أضحك معها. كان خلفى، على بعد خطوات قليلة. نادرًا ما كان يتكلم مع أحد. فقط يسلى نفسه بفتل الأحبال بأصابعه الجافة الغلظية. لا أتذكر أننى سمعته يرد السلام على الفلاحين العابرين ولا يتملقهم بدعوتهم إلى شرب الشاى معه. هزة لا مبالية من يده كانت رده المفضل على التحية. لا أتوقع أن رجلًا عجوزًا مثله يتكلم مع طفل مثلى. أشار إلى عصا قصيرة مغروسة فى منتصف المسافة بين شجرة التوت والماكينة، وقال لى: «شايف العصايا دى.. اللى غرسها هنا عمك الكبير». توقفت عن ضرب المياه برجلى وتطلعت حيثما أشار. لم يقل شيئًا آخر. عمى كان أقرب أصدقائه. كان صموتًا مثله. كيف يختفى إنسان من الوجود وتبقى عصا صغيرة لا قيمة لها تُدل عليه؟! لماذا أخبرنى عنها؟ هل يتوقع أنها ستنبت وتصبح شجرة سرو؟ بعد مرور خمسة مواسم للحصاد،اخضر شاربى، واستطالت قامتى النحيفة. لم يعد يليق بى تسلق شجرة التوت واللهو فى الماء كالصغار. العم بديع كما هو. لستُ متأكدًا إذا كان يرتدى طاقيته الصوف على الدوام. كان لها شكل هرم صغير فوق رأسه. عندما تصدر الماكينة حشرجة معدنية وتتوقف، كان يجلب حقيبة العدة ويقف فاحصًا. مهما كان حجم الكارثة لا يبدو فى عجلة من أمره، حتى لو قضى اليوم كاملًا فى تبديل الزيت وتركيب المسامير وتشحيم السير الجلدى الغليظ، كان يفعل ذلك كله بصبر وتأن. ليس فى ملامح وجهه الأسمر المتغضن علامات غضب وتبرم، ولا ابتسامة استمتاع خفية. فقط هو يصلح الماكينة. ثم يبتعد إلى الوراء ويراقبها حين تعاود التكتكة والدوران وقذف المياه فى المسقى الواسعة أمامها. كان لون طاقيته كالحًا ما بين البنى والرمادى. ربما ازداد جسده انحناء. يبدو أنه ازداد قصرًا عن آخر مرة رأيته فيها قبل خمس سنوات. ليس لائقًا أن أقول له إنه كبر وشاخ. راقبته يتحرك بخطواته المتأنية المعتادة ما بين التوتة والماكينة..ابتعد متأملًا جريان النهر. مازال يعيش وحده كأى غريب مقطوع من شجرة. لا امرأة تعد له الشاى والبيض المقلى وتُنادى عليه من الضفة الأخرى للنهر. العم بديع أتى منذ زمن بعيد، من بلدة مجهولة، واستوطن هذه البقعة الصغيرة جدًا من العالم. يُقال إن عمى الكبير هو من أعطاه الكوخ وعهد إليه برعاية ماكينة الرى. هل يكون قد خنق زوجة لا يعرفها أحد بيديه هاتين اللتين لا تتوقفان عن فتل الأحبال ونقع خوص النخيل فى المياه؟ قتلها قبل عشرين أو ثلاثين عامًا لأى سبب، أو من دون سبب، ثم جاء إلى هنا هاربًا، فأخبر عمى أن اسمه «بديع» وهو ليس «بديع»! قد يكون اسمه «مطاوع».. من يدري! لا أحد هنا كان مهتمًا بحقيقة ساكن هذا الكوخ المعتم. لم يفلح خبث الفلاحين ولا فضولهم كى يبوح بقصته السرية لأحد. لابد أن لديه قصة سرية تؤرقه فى الليل، عندما يستعيد فصولها فى ذاكرته وهو مستلق على السرير المعدنى الصغير داخل الكوخ. كيف ينام هذا العجوز وسط رائحة الكيروسين والزيت الأسود وأصوات الماكينة الشيطانية؟! كلما رأيته تذكرت المرحوم عمى. كعادته لم يرد تحيتى واكتفى بهز يده، فابتسمت. بقيتُ واقفًا لا أعرف ما هى الخطوة القادمة! ليس هناك احتمال لتبادل الأحضان والعناق بيننا بعد مرور عشر سنوات على آخر مرة التقينا فيها. الماكينة التى طال الصدأ صفائحها المعدنية، مازالت تهدر بأصواتها المرعبةالتى كانت تحرك كل الشياطين فى رأسى الطفولى. مد يده بعروقها النافرة أمامه وأشار إلى العصا القصيرة المغروسة كما هى، فى منتصف المسافة بين شجرة التوت والماكينة. قال: «شايف العصايا دى.. اللى غرسها هنا عمك الكبير». هل خرف العجوز ونسى أنه أخبرنى بقصة عمى هذه قبل سنوات بعيدة؟ ياه يا عم بديع! مازلت تتذكر العصا وتتذكر عمى رحمة الله عليه! تعجبت أنها مازالت فى مكانها. لاشك أن الأمر تطلب منه رعاية هائلة كى يستبقى هذه العصا هنا فلا يخلعها أحمق ويمضى بها. كأن وجودها مرهون بوجوده هو نفسه. خطر فى بالى أنه عندما يجلس وحيدًا كان يحكى للعصا باعتبارها عمى، قصته السرية التى لم يُبح بها لأحد. أمام المرآة فى بيتنا القديم، انتبهت إلى أن شعيرات بيضاء خفيفة قد نمت فجأة على جانبى رأسى. هل ابيض شعر العم بديع أيضًا أم كان أصلع؟ صورته الماثلة فى ذاكرتى مشوشة. غائمة فى ماضٍ سحيق. لابد أنه تجاوز السبعين. ربما أكثر! هذا إذا كان مازال على قيد الحياة. هل وجد من أكرمه عند موته ووضعه فى قبر يليق بهؤلاء الغرباء الذين لا يعرف أحد أسماءهم؟ تصورته فى يومه الأخير حاملًا حقيبته الحديدية، وبيده الأخرى يُغلق زر تشغيل الماكينة قبل أن يدلف إلى كوخه المعتم متمددًا فى سريره. نام وعلى يساره، العصا الخشبية الطويلة ذات الخطاف المعقوف التى كان يصوب بها مسار الجثث كى تمضى فى النهر، وعلى يمينه حقيبة العدة. كانت مفتوحة على المسامير والمفكات والمفاتيح فضية اللون، كأن يدًاخفية لأحدالشياطين الذين كنت أتوهم أنهم يعيشون فى الكوخ معه، كانت تتناول العدة وتحاول إصلاح جسده المعطوب وإعادة تشغيله. ظل هكذا مضموم الكتفين، وممددًا فى فراشه. هكذا لأيام وشهور، ولا يعلم أحد بشأنه إلا حشرات الكوخ. ربما فى الليل كان هيكله العظمى ينهض ويجلس وحده أسفل التوتة. طاقيته مازالت راسخة كما هى كأنها جزء من رأسه.لا أدرى من أين أتتنى الشجاعة لعبور الكوبرى الخشبى فى منتصف الليل! مع كل خطوة،كانت اهتزازة فلوق النخيل المهترئة تخبرنى بأننى سأسقط فيبتلعنى النهر الجارى فى ثوان، كأن لم أكن يومًا. شجرة التوت العجوز صامدة فى مكانها. كانت شاحبة ومبللة بالندى. أنوار القمر المكتمل كانت تخترق فروعها وأوراقها الجافة. الماكينة تهدر بأصواتها الشيطانية. وها هو هناك. كان هيكله العظمى جالسًا فى الليل.لم يرد على تحيتى ولا حتى بهز يده.لم يتطلع إلىّ. لا أتذكر أنه تطلع إليّ يومًا والتقت أعيننا. أبقى جمجمته منكفئة بين ركبتيه وبعد برهة مد عظْمة يده إلى الأمام. كان صدى صوته عميقًا شبحيًا مثل صوت مجرم تائب. قال وهو مطأطئ الرأس: «شايف العصايا دى.. اللى غرسها هنا عمك الكبير»