فيلم «الكتاب الأخضر» الذى استحق منذ أيام جائزة أوسكار أفضل أفلام 2018، ليس مجرد فيلم عن العنصرية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية بل هو رحلة استكشاف ل»الأخضر» وسط كل «الأسود» المحيط به؛ فخلال رحلتهما معا لم يكن الأمريكى ذو الأصول الإيطالية «تونى ليب» (فيجو مورتينسون) يكتشف فقط الآخر ممثلا فى مرافقه عازف البيانو الشهير «دون شيرلى» (ماهرشالا علي) ذى الأصول الإفريقية، بل كان يكتشف أيضا نفسه وبلاده. ....................... »الأخضر» كان عنوان الكتاب الذى وضعوه فى يد «تونى» حين قَبِل مهمة قيادة سيارة وحماية عازف أسود شهير فى جولة موسيقية ليرشده إلى الفنادق الصغيرة والمطاعم ومحطات الوقود الخاصة ب»الزنوج» فقط التى يجب عليهما التوجه إليها ليتمكنا من إنهاء الرحلة بسلام دون تعرض لمضايقات متوقعة فى ولايات الجنوب الأمريكى الأكثر تعصبًا ضد الملونين فى أوائل ستينات القرن العشرين، والأخضر هو لون السهول الجميلة الممتدة التى كان يكتشفها «تونى» عبر الولايات الممتدة على طول الرحلة، وهو أيضا لون الجمال والرقى الذى صار «تونى» يكتشفه يوما بعد يوم فى مرافقه ذى البشرة السوداء على مدى الأسابيع الثمانية التى قضياها معا، والأخضر هو فطرة «تونى» الطيبة اليانعة كطفل صغير يكتشف نفسه وكأنه يولد من جديد؛ فالشخص الذى يحتضن العازف الأسود فى نهاية الفيلم بكل ود وترحاب ليس بالتأكيد الشخص نفسه الذى رمى فى القمامة كأسين زجاجين لمجرد أن عاملين من أصول إفريقية شربا منهما فى أثناء قيامهما ببعض الأعمال فى منزله. وفى المقابل إن كان «العالم مليء بأناس يعانون الوحدة وخائفون من أن يقوموا بالحركة الأولى» فإن العازف الذى يصل فى النهاية لا يعود واحدا من هؤلاء الناس. صحيح أن فيلم «الكتاب الأخضر» موضوعه الرئيس هو العنصرية ولكن المعالجة هنا جاءت مختلفة تماما عن كثير من الأفلام التى تناقش الموضوع نفسه يبدأ الفيلم بداية كلاسيكية باستعراض حياة البطل «تونى ليب» الذى يعيش فى أمريكا وسط مجتمع إيطالى تقليدى ومترابط، يعتمد على الحيلة بكل الطرق ليستطيع تأمين حياة بسيطة له ولأسرته، حتى لو عن طريق قليل من النصب أو السرقة، ولكنه فى الوقت نفسه ليس مجرما فهو يرفض الانخراط فى أعمال المافيا الإجرامية رغم حاجته الحقيقية إلى المال ورغم إغرائه بذلك أكثر من مرة من بعض أقاربه استغلالا لشجاعته وقدراته البدنية، هو باختصار «فهلوى» على الطريقة المصرية. أو كما يصف نفسه «لا أكذب أبدا»، «أنا فنان فى الخداع»، «جيد فى التعامل مع الناس، أجعلهم يقومون بأشياء لا يريدون القيام بها.. بخداعهم»، وهو أيضا شخص شديد الاعتزاز بنفسه، شَرِه ويحتفظ بشهية مفتوحة دوما على مصراعيها فهو إما يأكل أو يدخن، أما عنصريته المبدئية ضد الملونين، فهى عنصرية سطحية يمارسها ذوو الأصول المختلفة ضد بعضهم البعض، ولكنها ليست أبدا عنصرية إجرامية، بل سرعان ما ستتلاشى بمجرد التعرف على الآخر بشكل حقيقى. يصور الفيلم الرحلة التى يخوضها البطلان ليس فقط بهدف استعراض عنصرية المجتمع الأمريكى ضد الملونين، بل ولا حتى الكشف عن الاختلاف بين عالمى البطلين، بل لتأكيد أن نقاط الاقتراب والتواصل بين البشر أكثر بكثير مما يبعدهم وينفرهم من بعضهم البعض، حتى لو كان أحدهما يؤمن بأن «أيا كان ما تفعله افعله 100%، عندما تعمل اعمل، عندما تضحك إضحك، عندما تأكل كل وكأنها وجبتك الأخيرة»، والآخر يدرك بأن الأمر ليس بهذه البساطة وأن كونك عبقريا ليس كافيا لتحيا بكرامة فى مجتمع مازال يحبو للتخلص من أمراض العنصرية. ولذا حين يتعجب «تونى» من «شيرلى» «كيف يبتسم ويصافح أياديهم بهذه البساطة؟ لو حاولوا إخراجى من منزلهم حتى لا أقضى حاجتى فيه، سأقضيها تماما فى غرفة معيشتهم»، يرد شيرلى على عنصرية مستضيفيه ب»شكرا على كرم الضيافة». وطوال الرحلة التى كان يحاول فيها العازف تعليم سائقه قواعد الرقى والتحضّر أو «تقنيات» يمكن أن تساعده فى التعامل مع مجتمع الأثرياء والمتعلمين، كان يتعلم فيها من هذا السائق الحياة ببساطة وعفوية دون حسابات معقدة، ولذا حين يصلان فى النهاية إلى نهاية الرحلة سيكونان وكأنهما براعم خضراء، وقد وُلدا من جديد. حوار الفيلم كان من أميز عناصره ولذا لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بأوسكار أفضل سيناريو مكتوب مباشرة للسينما، حتى إنك ستحتاج وأنت تشاهده إلى ورقة وقلم فى يديك إن أردت الاحتفاظ بهذه الجمل الحوارية الممتعة شديدة الاتقان فى التعبير عما تريد الشخصيات قوله، ولا شك ساهم فى ذلك كون مخرج الفيلم كاتبا بالأساس، بجانب وجود «نيك فاليلونجا» ضمن فريق التأليف، وهو ابن «تونى فاليلونجا» الشخصية الرئيسية فى الفيلم، وانضم إليهما الكاتب والممثل الأمريكى «برايان هايس كورى»، وكل ذلك منح الفيلم ذلك الحوار الرشيق المتوج بعدة مواجهات شديدة العذوبة بين شخصيتى الفيلم الرئيستين «تونى فاليلونجا» و»د. دون شيرلى» اللذين أدّى دوريهما باقتدار النجمان فيجو مورتينسين (صاحب الترشيح للأوسكار ثلاث مرات فى أعوام 2008 و2017 و2019) وماهرشالا على (الفائز بالأوسكار للعام الثانى على التوالى عن دوريه فى «ضوء القمر» ثم فى «الكتاب الأخضر»)، والاثنان ترشحا عن دوريهما لجائزتى أوسكار أفضل ممثل فى دور رئيسى وأفضل ممثل فى دور مساعد. عناصر الفيلم المتميزة متعددة من موسيقى وملابس وتصوير وغيرها وكلها تستحق الإشادة بها والحديث عنها بالتفصيل فى مقال مخصص لذلك، ولكن لا أريد إنهاء هذا المقال قبل الإشارة سريعا إلى مونتاج الفيلم الذى شهد عددا من «القطعات» أو «النقلات» التى يجب التوقف أمامها مثل الانتقال من مشهد توجه «تونى» إلى التبول فى الطريق إلى مشهد النافورة المتفجّرة فى «بيتسبيرج»، والانتقال من لقطة الفقراء السود الذين يعملون فى حقل على الطريق وتوقفوا متأملين فى ذهول صامت السائق الأبيض الذى يقود سيارة العازف الأسود إلى لقطة الأغنياء البيض مرتدى الملابس البيضاء فى أحد قصور «نورث كارولينا»، والانتقال من مشهد رفض صاحب متجر الملابس شراء شخص أسود لبدلة جديدة من متجره إلى مشهد المسرح حيث يعزف دون شيرلى ببدلته التوكسيدو القديمة فى غضب تم التعبير عنه بقطعات حادة وزوايا متعددة وموسيقى سريعة غاضبة. فيلم «الكتاب الأخصر» واحد من أفضل الأفلام التى تم تقديمها فى السنوات الأخيرة، ولا شك يستحق جوائز الأوسكار الثلاث التى حصل عليها من بين خمسة ترشح لها، وأعتقد أنه لا يسبب أى حساسية للمصابين بفوبيا «الصواب السياسى» أو ال»Political Correctness».