دون المجازفة بالدخول فى أمور تثير ألماً وسوء ظن أحاول فهم مسيرة العقل العربى خلال عقود طويلة من الزمن، اتساءل: هل تطورت عقليتنا العربية والشرقية عبر نصف قرن من الزمن؟ الإجابة هى نعم، تطورت عقليتنا العربية فى كثير من الأمور، لا ينكر ذلك مفكر أو عاقل، نحن اليوم نعيش حضارة العصر، تقدمت العلوم وانتشرت فى ربوعنا، عرفنا بعضا من حرية الفكر ونظم الحكم، وامتلكنا وسائل الإعلام والاتصال وازدحمت مدننا بكل مخترعات القرن الماضى والحاضر، وعرفنا طرق السياحة والمتعة، وامتدت الجسور بيننا وبين أمم العالم، تأثرنا بهم وتأثروا بنا إلى حد ما، لقد تطور العالم كله ، وامتزجت الثقافات ، واختلطت التقاليد... إن عالماً موحداً شئنا أم أبينا فى طريقه للظهور وأن بدا الدرب طويلاً شاقاً ... هذا بعض من الإجابة . ولكن ينبغى مناقشة ما لم يتغير فى عالمنا الشرقى وفى عقليتنا العربية، ولا أفرق هنا بين شعوبنا العربية كافة وبين مسلمين ومسيحيين فكلنا فى الهم شرق، اعتقد أن مالم يتغير هو الجوهر والأساس، واتمنى أن أكون مخطئاً، وأشير إلى عدة نقاط هى: عقليتنا الدينية مسلمة أو مسيحية لا تزال أسيرة العصور الوسطي، فالفقه السائد حتى اليوم ليس هو فقه القرون الثلاثة الأولى من المسيرة الإسلامية التى حملت مشعل الدعوة إلى إيمان جديد وديانة جديدة دون إكراه، وفى احترام رائع لتعددية الشعوب وتنوع أديانها واختلاف طبائعها وتراثها وثقافاتها، لم نقرأ أن الفاتحين الأول حطموا حضارة أو اثراً تاريخياً أو هدموا مدرسة أو كتاباً أو أكرهوا قوماً على زى من الأزياء أو طقس من الطقوس، لم يقسموا العالم إلى مؤمنين وإلى كفار، والدنيا إلى دار حرب ودار سلام، بل كانوا دعاة رسالة وحاملى إيمان، سعوا إلى تغيير العالم بالقدوة الحسنة، بالعدل وبالمساواة بين الناس وبالكلمة والحوار، وانتهى القرنان الأول والثانى من الهجرة ثم تبدل الحال، وانتشرت البدع والفتن، وتوارت الدعوة إلى الإيمان خلف السعى إلى السلطة، وكثر أهل الفتوى واتصلت الحروب من أجل المغانم والسيطرة ، حتى اطلق على الحروب الوسطى عصر الحرب والدين، لم يختلف الشرق عن الغرب فى الأمر، توارى الإيمان، والجوهر،والعقيدة والقيم وحياة الروح، واستبد البطش وساد الفكر السطحي، وغمرت الدنيا طقوس ابتدعها أهلها فيما يشبه وثنية مغلفة، وانتهت عبادة أصنام الحجر وحلت محلها عبادة أصنام البشر وماتت كلمات منها الحرية والمساواة وقيمة الإنسان وسمو الحياة وأخوة البشر، وبإيجاز توارى الإيمان، والأخلاق والسلوك وتضخمت الطقوس والممارسات الشكلية، وضاع صوت المصلحين والصادقين فى خضم الحروب وفى زحمة المدعين وفى سوق نفاق الجماهير. نحن اليوم على عتبة عالم جديد وقرن جديد بكل ما يحمل هذا القرن من رؤى بعيدة المدى واسعة الخيال فى اكتشاف لأسرار العلوم وغزو الفضاء، وتكتل الأمم ، وتبدل القيم ، فى صخب العالم سريع الخطى والتطور، وفى زحام المعلومات هل تغيرت عقليتنا؟ مازلنا نخشى أن تضيع هويتنا،أن يعبث القوم بعقيدتنا كأن العالم غول متوحش ونحن حملان أبرياء، أو قل كأن الدين شيء يؤخذ منا، وهويتنا لعبة قد يسرقها الآخرون، وننسى أن الدين والإيمان نسيج فى كياننا، وهويتنا تجرى فى عروقنا، أمرنا فى يدنا وإرادتنا وحياتنا، لكنه الإحساس بالعجز عن مواجهة التطور يسلبنا قوة التفكير وشجاعة التحليل وطموح الواثقين فى أنفسهم ووطنهم وهويتهم. عقليتنا العربية لاتزال تعتقد أنها وحدها تمتلك الحق المطلق، ولهذه الدعوة الغريبة علماء وكتاب ومتحدثون إعلاميون ووعاظ يشحنون العقول بالسذاجة ويعمقون الاحساس بالغربة والعزلة عن الشعوب والثقافات ونسينا أن الحضارة المعاصرة بكل ما تحمل من إيجابيات وسلبيات لها جذورها فى الحضارة العربية وفى الفكر الإسلامى، كما تنسى الكنائس الشرقية أن معظم الاختلافات المذهبية إنما نشأت فى الشرق من أريوس إلى نسطور وأن البدع الوافدة من الغرب لها جذور من الفكر الشرقي, فعالمنا عالم واحد وبنو البشرية أسرة واحدة وليس على الفكر حجر وليس للتوهج العقلى حدود وليس لامتداد الثقافة حواجز أو سدود، وليس لنا أن نخاف على إيماننا وعقيدتنا إلا من أنفسنا حين نترك الجوهر أو الإيمان والأخلاق والقيم ونتمسك بالقشور والمظهر والطقوس، مازلنا ننظر كشرقيين إلى من يخالفنا الإيمان والعقيدة على أنه عدو كافر، ولست أدرى لماذا لا نواجهه بأن نطبق هذا الإيمان ونتمسك به دون خشية أو تردد، فالله ليس بحاجة إلى سلاح وعسكر بل يحب الله المؤمنين الخاشعين الحقيقيين . ليس فى حاجة إلى من يغير عقليتنا ، نحن لنا القدرة على ذلك لكن قبل أن نتغير يجب أن نوضح ماذا نريد أن نغير؟ ما هى الوسائل لذلك ؟ أبسط مبادئ التفكير تبدأ بهذا المنهج: أنظر . أحكم . أفعل، ويمكن إيجاز ما ينبغى أن نطبق فيه هذه القاعدة: موقفنا من الدين وموقف الدين منا ؟ هل كل ما يتم على الساحة العقلية العربية فى الأمور الدينية هو من صميم الجوهر؟ هل يفرض الدين بالإكراه على الناس, هل التربية الدينية هى حشو العقل بما هو صحيح وبما هو غير صحيح أم أنها تربية الممارسات الأخلاقية مع تعلم المثل السامية، من الرقيب على بعض من رجال الدين والإعلام والمتحدثين، يتشدقون بالخرافات والأساطير ويوجهون الفكر فى العقل العربي، هل هذا من مصلحة مستقبل بناء الأمة، لماذا توارت الفلسفة الإسلامية وانحسرت الاجتهادات وحوصرت، بينما شاع الدجل والزيف، ما هو دور رجل الدين وما هو موقفنا ممن يتمسحون بالدين وبالدعوة ويجدون التبع والمناصرين لأنهم يعزفون على أوتار العواطف دون هز أوتار الفكر. ازعم أن عصر ما بعد الحداثة الذى نعيشه فى أشد الحاجة إلى منظومة واضحة جادة فى التعليم وفى الإعلام وفى جهد متصل لغربلة ما يذاع وما ينشر وما يطبع... فليس الأمر هنا رقابة أو كتم أصوات الفكر بل منهج لإعادة صياغة العقل العربى ووجدانه الإنسانى . لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلتة