مياه النيل وتكوين الارض السمراء ومؤهلات الاشباع الغذائي والموارد التعدينية واستخدام الموقع الجغرافي علي هامش حزام الزلازل المدمرة والمتمتع بمناخ مقبول خال من العصف والتطرف والمتمركز وسط المعمور من قارات العالم وبحاره المهمة كلها ميزات طبيعية كان يمكن ان تظل كتابا مفتوحا لا يقرأه الناس وبالتالي لم يكن بالإمكان أن توجد مصر كما عرفها التاريخ أمس واليوم. فالذي جعل هذا المكان مصر هم الناس الذين عرفوا الطرق الممكنة للتشغيل الانسب لهذه الميزات معا فكانت مصر بكل محتواها الحضاري والسياسي والتاريخي علي مر العصور بازدهارها وركودها حلوها ومرها. وهي في كل أحوالها القوية والضعيفة ومازالت قبلة جيرانها ومن وراؤهم برا وبحرا وهو ما أدي بدوره الي إضافة أعباء علي المصريين لدرء المخاطر او التخلص من سيطرة أجنبية دوامها محدود. فيما سبق مما كتبته تحت هذا العنوان عن الميزات المصرية تكلمت عن النيل تتهدده مخاطر الإسراف المحلي وطموحات دول أعالي النيل مع تساؤلات محيرة عن مستقبل مياه النيل تحت تأثير المتغيرات المناخية العالمية. الصورة ليست مشرقة إلا إذا تداركنا الأمور بكل ما تصنعه التكنولوجيا وكل ما تقدمه الحنكة السياسية وكل ما نضعه من سيناريوهات وخطط تدريبية في مواجهة المصاعب. وكتبت ايضا عن اعداد السكان سواء كانت بضعة ملايين في الماضي او عشرات الملايين في الحاضر وكيف ان هذه الاعداد هي العمود الفقري الذي ابقي علي مصر مصرا حتي في الانتكاسات. تلك الأعداد كثرت أو قلت هي مشكلة حقيقية أوقات الركود وهي إضافات خلاقة ومبعثا للقوة أوقات الازدهار. ولا ينصرف ذلك فقط علي الاوضاع الاقتصادية وان كانت هي الاساس بل تشمل التكنولوجيا والتراكيب المجتمعية والنظم السياسية والآداب والفنون وحرية الفكر والإبداع. وحركة الناس فيما بين الركود الي مطلب الازدهار تتسم بتوجهات مختلفة فكيف نسوسها حتي تستقر علي مناسيب الصالح العام ؟ وعلي الأغلب اننا نحتاج الي إطار فكري مجتمعي تنظيمي شامل يحدد الأهداف التي تنفذ مرحليا أو سراعا حسب عمق الركود. إيا كانت الموارد المحسوسة طبيعية وبشرية في أي مجتمع فإنها تخضع لنوع آخر من العناصر غير المادية منها المعرفة والفائدة المطلوبة وتكنولوجية التشغيل وتوزيع متعادل للإنتاج مجتمعيا كل ذلك في إطار تنظيمي شامل متطابق مع ايديولوجية معينة. تفعيل هذه العناصر للموارد لا يتخذ صورة دائمة الشكل بمعني انه يعتريها التغيير بتغير المعرفة او الفائدة أو التقنيات أو موارد جيدة ومن ثم يتغير النظام. او عكس ذلك حين يتبني المجتمع إيديولوجية أخري فإن تغير الأنظمة يؤدي الي متغيرات في الهدف والمضمون. بعبارة أخري فإن الانظمة تتراوح بين الجمود والمرونة وبين الثبات والانتقالات العنيفة فينعكس ذلك علي قوة الدولة أو ضعفها. وباعتبار تاريخها الطويل مرت مصر بتلك المراحل التنظيمية الثابتة والمتغيرة مرات عديدة. صحيح ان المورد الاساسي ظل الزراعة في كل المراحل لكن المدقق يعرف كيف أن تشغيل الأرض زراعيا كان يختلف بين انظمة استبدادية وأخري أميل لحقوق ملكية الأرض سواء كان النظام مصريا أو أجنبيا. بل أكثر من ذلك مثلا في النصف الاول من القرن الاخير كان نظام الري يتحكم في مساحة الأرز والقطن والقصب الخ ولكننا نشهد حاليا حرية مكتسبة( لأسباب كثيرة) أدت الي تجاوزات كثيرة في مساحات الأرز ونقص متزايد في القطن. ربما السبب اقتصادي بحت نتيجة لوجود سوق مصرية كبيرة للأرز بينما شاخت مصانع القطن والسكر دون تحديث يذكر. إن ما يحدث هو في النهاية توجه مجتمعي رغم توقيع غرامات لا تجمع. وفي الواقع أن حالة الأرز أو القطن هي نتيجة تغيرات عميقة في الزراعة المصرية لا نعرف مداها برغم محاولة المختصين تقصي اسبابها. وفي النهاية فإنه تنقصنا مساع قوية لهيكلة هذا التغيير في الزراعة وسبر أغواره بينما نحن علي الأغلب نتحرك في صورة ردود افعال تجاه مشاكل فرادي لمحصول واحد أو محافظة واحدة. الزراعة المصرية هي التكثيف الانساني للميزة الطبيعية النيل والتربة الفيضية بواسطة الميزة التقنية للسكان كثروا أو قلوا. لهذا كانت الزراعة احدي أهم الميزات النسبية لمصر طوال عهودها بتطوير تقنيات الزراعة وأنواع محاصيلها. فأين الآن من يرسم الصورة القادمة للزراعة ؟ أو بصريح العبارة تنقصنا ايديولوجية جديدة علي نحو مشابة لمفهوم محمد علي حين أدخل ايديولوجية الزراعة الصيفية علي نطاق واسع في مصر محدثا متغيرا ضخما( ربما ثورة:) في النمو الرأسي للمساحة المحصولين وتنمية نوعية مقصودة بمحاصيل زراعية صناعية معا. عشنا علي هذه الايديولوجية قرابة قرنين من الزمان أجهدت فيه الارض بعد أن فقدنا عمليا نظام الدورة الزراعية وطمي الفيضان فزاد ارتفاع منسوب المياه الباطنية وأكثرنا بإفراط في التسميد الكيماوي. والآن هل يمكن للكفاءات العلمية التي تزخر بها مراكز البحوث والكليات الزراعية ان تطرح للمناقشة أفكارا لايديولوجية زراعية جديدة تخاطب أوضاعنا الحالية في الوادي والدلتا وإشكالية الزراعة الصحراوية من حيث أنسب وسائل الري وأنواع المحاصيل علي ضوء ثبات او تناقص مصادر المياه المتجددة( النيل) والحفرية( الجوفية)؟ بمعني تطهير أراضي الدلتا والوادي من سموم الكيماويات ومناسيب المياه الباطنية ومياه الصرف بأنواعها واستعادة دورة زراعية ملازمة لإعادة تخصيص مكاني لمحاصيل ملزمة ترقي باقتصاديات الريف والدولة معا ؟ وبالمثل تأكيدات مماثلة علي الاراضي الجديدة حتي لا نحولها الي أشباه اشكاليات الدلتا والوادي. وفي كل هذه الافكار يبقي الرائد الفكري الاول إطالة اعمار الزراعة بأكبر قدر من الحفاظ علي موارد المياه بأنواعها في ظل شبح التغير المناخي بمكوناته الحرارية والمائية وترسيبات عواصفه الترابية وزحف الرمال علي الحقول!! وحول المكان وعلاقاته المجالية التي أزعم ان لي به نوع من الدراية هل يمكن ان اقترح شكلا عاما من إعادة تخصيص الارض بين المحاصيل الحقلية والشجرية والأعلاف ليس فقط بنسب معينة بل ايضا في نطاقات معينة غير مقترب من تفصيلات وأفضليات النبات والحيوان الي علماء الزراعة والبيطرة والاقتصاد. علي سبيل المثال تخصيص شمال الدلتا للأعلاف وتربية الحيوان بما في ذلك امتدادها شرقا الي منطقة بير العبد في سيناء وامتدادها غربا إلي ملاحة مريوط ونواحي الحمام فهي كلها أرض معرضة ان ينهبها البحر حال ارتفاعه مترا واحدا ربما أواخر القرن الحالي. وحينئذ يمكن نقل الماشية بينما لا يمكن تحريك الحقول الغارقة! هذا فضلا عن ان هذه الاراضي كانت تاريخيا أراضي رعوية لدرجة ان بعضها كان معروفا حتي اقل من قرن باسم البراري بين فرعي رشيد ودمياط. وقد تداخلت فيه استثمارات زراعية لعائلات قوية وكذلك شركات زراعية كما كان في اراضي شمال غرب البحيرة. وحينما تتحول أراضي الشمال الي تربية الحيوان بأنواعه سيكون العائد أكبر من مجرد الزراعة باعتبار أنها ستصبح من أنواع الزراعة المختلطة حيث تكثيف متضاعف لزراعة الأعلاف والتسمين معا. قد يؤدي تنمية المراعي الي حلول لمشاكل تعترض سوق اللحوم الحمراء الداخلية والاستيراد معا. قدر د. نادر نور الدين الاستهلاك الحالي بنحو850 ألف كيلو جرام سنويا بينما الانتاج المحلي هو500 ألف والباقي يتوفر باستيراد350 ألف كجم. وهو ما يعني ان نصيب الفرد نظريا شديد التدني( ربما10 جرامات سنويا) ومع ذلك لدينا مشكلة فما هو الوضع مع زيادة الاستهلاك( ولو بضعة جرامات) ارتباطا متوقعا بإرتفاع الدخول ؟ لاشك في أن تقليل تكلفة الأعلاف( بزراعة معظم الخضراء منها) وتحسين أنظمة تربية الحيوان سوف يؤدي بالضرورة الي زيادة استخدام البيطريين واهتمام أكبر بذلك التخصص من بين أشياء أخري تسهم في ارتفاع تدريجي في عدد الماشية من نحو عشرة ملايين رأس الي الضعف. ليس هذا فقط بل ربما تنشط الظروف الجديدة انخفاض تكلفة الانتاج وتوافر الخدمة البيطرية عودة بعض الريفيين في مناطق آخري الي نظام تملك رأس أو اكثر مما يسهم في رواج اسواق اللحوم المحلية. وفي الختام يرتبط كل ذلك بأمرين اولهما ليس فقط استيراد ما يتراوح بين ربع وثلث احتياج السوق الداخلية, بل قد يقلب الميزان الي المنافسة في تصدير أنواع مميزة من اللحوم الي اسواق عربية. والأمر الثاني ربما هو أكثر اهمية تصنيع اللحوم بواسطة منشآت حديثة الي قطع معينة من أجزائها( كالسوسيس ولانشون) فترتفع قيمتها في الاسواق أضعافا فضلا عن اللحوم المجمدة. وكذلك عودة الروح الي صناعة الجبن بأنواعها التقليدية والحديثة وألبان البودرة والطازجة الخ اكثره نستورده بأثمان باهظة. ما سبق مجرد جزء من نموذج إعادة هيكلة جذرية وإعادة تخصيص اماكن جغرافية لأفضليات جديدة للزراعة المصرية ترفع اضافاتها الي الناتج المحلي العام من13 15 الي20 25%. وربما هو ايضا أحد الافكار لمشكلات الزراعة في الدلتا والوادي قبل ان نتركها تتدهور باحثين عن أمجاد استزراع في الصحاري مع ما هي عليه من أخطار طبيعية وبيئية وبشرية سبق التنويه اليها امس وما قبل الأمس. ولاشك في ان استعادة ما كان في الاراضي القديمة هو ضرب من الرومانسية ولكن حين نفتش لدي الاخصائيين الزراعيين من علماء وباحثين وممارسين سوف نجد افكارا مميزة تضاف قابليتها للتطبيق الي مجمع من متخصصي التنموية البشرية سياسية اقتصادية اجتماعية علاقات مكانية مستجيبة لشروط الجغرافيا لكي تحدث الشرارة لنتحول الي ايديولوجية جديدة في مفهوم الميزات الطبيعية والبشرية والسلوكية التي ابقت مصر مصرا حتي في اوقات ضعفها وركودها. وربما الي موضوع آخر حول المركزية والقاهرة.