الحديث عن القاضي والكتابة يبدو حاملا لغرابة ما, لأنه يتصل بعمل من صميم المهنة والعمل والممارسة القضائية, سواء اتخذت شكل الكتابة التقليدية أو بالأحري الكلاسيكية. من خلال الورقة والقلم الرصاص, أو الحبر أو الجاف, أي الصورة التقليدية التي يعرفها ممارسو المهن القانونية كالمحامين, وأساتذة القانون, أو الجماعة القضائية. ثمة صورة جديدة ترتبط بدخول بعض التقنيات الاتصالية والمعلوماتية الجديدة علي المهنة والعمل القضائي وأدواته وتقنياته المختلفة, وذلك بدخول أجهزة الحاسوب والمحمول علي وجه التحديد, من خلال استخدام الحاسوب في كتابة الأحكام أو اللجوء إلي مواقع قانونية مخصصة للأحكام والمبادئ القضائية والقانونية لمحاكم النقض وعديد دوائرها الجنائية والتجارية والمدنية والأحوال الشخصية, أو المحكمة الإدارية العليا, أو المحكمة الدستورية العليا. ثمة استخدام للحاسوب يتمثل في الإطلاع علي التشريعات واللوائح والقرارات الإدارية, أو العقود الإدارية, أو أحكام محاكم التحكيم المصرية, أو علي نحو مقارن. الحاسوب قد يستخدم من بعض القضاة في كتابة الأحكام القضائية, وتخضع عملية الكتابة لمنطق الكتابة علي الحاسوب, بل قد يؤثر انتشاره كأداة للكتابة مستقبلا علي البلاغة القانونية الكلاسيكية, ومن ثم تتحرر من اللغة المجازية, أو الأقوال العامة, أو المفردات والتشبيهات الأدبية المجنحة. يمكن القول إن نمط الكتابة بالورقة والقلم الذي لا يزال سائدا في كتابة القرارات والأحكام القضائية وهو ما يفرض نمطا من المقاربة واللغة ذات المصادر البلاغية المستمدة من الأدبيات القضائية الرصينة السابقة. ثمة ملاحظة من متابعة بعض الأحكام القضائية أنها لا تزال مولعة بلغة وبلاغة حيثيات عيون أحكام محكمتي النقض, أو استئناف القاهرة, أو الإسكندرية في بعض مراحل التطور التاريخي للقضاء المصري, حيث كان التكوين القانوني واللغوي الرفيع لخريجي كلية الحقوق جامعة فؤاد ثم جامعة القاهرة وعين شمس والإسكندرية, والتي كان النظام التعليمي والتكويني السائد آنذاك رفيع المستوي. كانت اللغة والبلاغة والملكة القانونية تتسم بالعمق في المقاربة, والحس التحليلي الرفيع, وحسن الاستنباط, والمواءمة التفسيرية والتأويلية للنصوص القانونية, علي وقائع المنازعات وظواهرها المتغيرة. الثقافة القانونية المصرية, كانت تعبيرا عن جهد خلاق بذله المشرعون والقضاة ورجال الفقه والمحامون, في محاولات توطين وتأصيل الثقافة القانونية والتشريعية ذات المرجعية اللاتينية لتغدو جزءا من واقعنا الموضوعي وثقافتنا القانونية. لم تكن الثقافة القانونية معزولة عن الحياة أو عن الثقافة الرفيعة الأدب وسردياته وأجناسه الأدبية علي اختلافها-, والدراسات الاجتماعية والسياسية, بحيث باتت الأحكام والدراسات الفقهية ومرافعات المحامين يشكل بعضها مثالا متميزا لما عرف بالأدب القضائي الكلاسيكي الرفيع. بعض الأدب القضائي كان يرجع لأصول البلاغة الفقهية الواردة ببعض مراجع أصول الفقه, وآراء الفقهاء في المدارس المختلفة لفقه الجمهور السني. لغة ذات مصادر فقهية ودينية بامتياز, ولكنها استعيدت من بعض القضاة وتمت محاكاة أفضل ما فيها من مجازات ومصطلحات وتراكيب, وبعضها اكتسب لغة متميزة ورصينة ومن بينها أحكام عبد العزيز فهمي باشا, ومصطفي مرعي بك, والعميد عبدالرزاق السنهوري, ومن معاصرينا أحكام الدستورية العليا برئاسة المرحوم المستشار عوض المر رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق, وآخرين رحمهم الله جميعا, وأمد في أعمار بعض أساطين القضاء المصري. الكتابة القضائية أو الخطاب القضائي في العقود الماضية تأثر بعديد المتغيرات والظواهر, ومن بينها تمثيلا لا حصرا ما يلي: 1 التراجع في بعض مستويات التكوين القانوني, خاصة في ظل جامعات الأعداد الكبيرة, وتزايد أعداد الطلاب في كليات الحقوق مع نشوء الجامعات الإقليمية, وكليات الشريعة والقانون. أثر ذلك علي العملية التعليمية وعلي نتائجها ومستوي الخريجيين إذا ما قورن بعقود سابقة في النصف الأول, وحتي سبعينيات القرن الماضي, والتغير الذي حدث بعدئذ في البيئة الثقافية والجامعية.. إلخ. وهو ما يردده بعض شيوخ القضاة المصريين. 2 ضعف مستوي تعليم اللغة العربية وممارستها في الخطاب الإعلامي المرئي والمكتوب والمسموع, من حيث هيمنة اللغة المحكية الممزوجة ببعض اللغة الفصيحة, مما أثر عموما علي مستويات الذائقة والممارسة اللغوية, ولا شك أن ذلك أثر علي بعض الأحكام القضائية, من حيث مستوي تسبيب الحيثيات, أو الصياغة بما فيها الفنية في بعض الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الأولي أو الاستثنائية. 3 تأثر بعض القضاة بالمزاج العام المحافظ الذي شاع في أوساط اجتماعية عديدة, خلال العقود الماضية, وهو أمر طبيعي لأن غالب الجماعة القانونية عموما تتسم بالنزعة المحافظة, ولأنها ترتبط بالعملية التشريعية وتطبيقاتها في إطار الدولة والمجتمع بشرائحه الاجتماعية المختلفة, وصراعاته وظواهره ومشكلاته. ثمة بعض من التأثر في لغة واتجاهات بعض الأحكام باللغة والقيم والمجازات ذات المرجعية الفقهية الدينية. أمور تبدو مثيرة لدي بعضهم, ولكنها تعبير عن البنية المجتمعية وتأثر القضاة بما يجري داخل مجتمعهم. 4 في عقود تأسيس, وتطور الجماعة القانونية والقضائية والفقه والمحاماة كانت المعرفة باللغة الفرنسية والإنجليزية لدي بعضهم تشكل جسرا للاتصال بالمعرفة القانونية الحديثة والمعاصرة, ومن ثم كان الفقه والقضاء والمحامون علي إطلاع واسع بالفقه والقضاء الفرنسي خصوصا, وبعضهم كان لديه إطلاع علي القضاء الإيطالي, مما أدي إلي تطوير المعرفة القانونية المصرية التي رادت طريقا متميزا في إطار الأنظمة القانونية والقضائية في جنوب العالم, وعلي رأسها الهند الأنجلو ساكسونية, وذات المسارات المتميزة, ومصر في نطاق الأنظمة اللاتينية. القضاء والقضاة والكتابة, هم جزء لا يتجزأ من حالة الكتابة في أي بلد ويتأثرون كغيرهم بمتغيرات المجتمع واللغة والإنتاج المعرفي, ومن ثم تؤثر بعض المحددات والمتغيرات علي الإنتاج القضائي في الأحكام والفقه والدراسات القانونية والقضائية. الكتابة القضائية ذات تأثر, وتأثير بأوضاع التعليم عموما والقانوني خصوصا-, ووضع اللغة والأدب والثقافة في مجتمع ما ومدي استقلال القضاء وضماناته ووضع دولة القانون, فالسؤال الذي نثيره في هذا الصدد ما وضع الكتابة في الشأن العام التي قد يلجأ إليها بعض القضاة؟ الكتابة القانونية للقضاة, هي ذات طابع متخصص في عديد أنواعها ومستوياتها وغالبها يدور في إطار إصدار الأحكام القضائية التي تفصل في منازعات قانونية عرضت علي المحاكم واستوفت شرائطها الإجرائية والموضوعية. بعض الكتابة القانونية والقضائية لرجال القضاء, هي البحوث والدراسات القانونية التي يغلب عليها التحليل الفقهي, أو التعليق القانوني الفني علي بعض الأحكام الهامة أو علي بعض التشريعات... إلخ. هذا النوع من الكتابة القضائية ينشر في المجلات القانونية المتخصصة, أو في بعض الكتب الجماعية, ومع تطور وسائل الاتصال أو الإعلام قد ينشر في بعض الصحف والمجلات السيارة, وقد يتطور الأمر للنشر علي بعض المواقع النتية مستقبلا مع تطور وسائل النشر الرقمي. من الشيق أن نلاحظ أن الأجيال الجديدة من الكتاب عموما, ومن القضاة قد يلجأون إلي الكتابة عبر استخدام تقنيات اللمس, أو من خلال استخدام تقنية جديدة تقوم علي تحويل الخطاب الشفاهي إلي خطاب مكتوب. كل أداة من أدوات الكتابة تفرض ذاتها علي عملية الكتابة. أن التحول إلي الكتابة علي الحاسوب, ثم اللمس ستؤثر كثيرا في طرائق التفكير والكتابة عموما والقضائية علي وجه الخصوص, ومن ثم لن يعود القاضي وكاتب الجلسة والمحامي الذي نعرفه في حياتنا القضائية والقانونية, سوف تنعكس التقنية الكتابية الجديدة علي مفاهيم القضاة والمحامين والفقهاء وإدراكاتهم لعديد الأمور الاجتماعية والسياسية والقانونية, وعلي أسلوب الكتابة والبلاغة القانونية, ومن المرجح أن تتسم الكتابة القضائية باللمس, بالإيجاز والاقتضاب واستخدام لغة مقتصدة وواضحة وسلسة, ومن ثم يتوقع أن تتراجع البلاغة المستمدة من المتون الفقهية/ الأصولية الإسلامية أو الأدبية, لصالح لغة جديدة لا نستطيع حتي هذه اللحظة تبيان غالب أو بعض معالمها اللغوية والاصطلاحية, لأنها ستؤثر علي الظاهرة القانونية عموما, وعلي عملية إنتاج القاعدة القانونية, وعلي تطبيقاتها علي أنماط السلوك الاجتماعي والمراكز التي صيغت لتنظيمها. وللحديث بقية حول القاضي, وحرية التعبير في الشأن العام.