إن ما تشهده محافظة الشرقية في الوقت الحالي من تطبيق للعدالة العرفية يعتبر مثالا للحالة الأمنية التي تعيشها مصر منذ نحو سنة ونصف والتي تنبيء بسواد الفوضي الأمنية وإحلال قانون الغاب محل قانون المحاكم وتفعيل الأمن الشخصي بدلا من الأمن العام. إن الشعوب المتحضرة عرفت علي مر التاريخ بالمنظومة الأخلاقية السائدة فيها, وقد عرف عن الحضارة المصرية القديمة أنها كانت من أكثر حضارات العالم القديم إنسانية فلم تعرف علي سبيل المثال ظاهرة القرابين الآدمية التي عرفتها معظم الحضارات الأخري من حضارة روما إلي حضارة الأستك في أمريكا الجنوبية, وقد عشنا سنوات نتصور أن المصريين القدماء كانوا يلقون بفتاة حية في النيل كل عام لضمان فيضان وفير, إلي أن اكتشفت عالمة المصريات الفرنسية الشهيرة كريستيان دي روش نوبلكور من خلال أبحاثها متعمقة أن عروسة النيل التي كان يحتفي بها كل سنة في موكب كبير يؤم فرعون البلاد لم تكن إلا دمية لأن مهرجان عروس النيل كان يقوم علي المعني الرمزي لزواج إله النيل حابي من فتاة مصرية جميلة, وهكذا تحول المهرجان إلي طقس فني راقي أقرب إلي أفراح الزواج منه إلي تقديم القربان الآدمي. من هنا جاءت طبيعة الشعب المصري الإنساني النزعة والذي يميل إلي الطيبة والسلمية في التعامل وهو ما أدي إلي أن تصبح ثوراته التي هي أكثر لحظات التاريخ عنفا, كلها ثورات سلمية من ثورة عرابي إلي ثورة52 يناير.1102 لذلك فإن ما يحدث الآن في الشرقية وفي غيرها من المحافظات, يبدو مناقضا تماما لتلك الطبيعة التاريخية للشعب المصري, وهو ما يدفعنا للبحث عن الظروف القهرية التي تدفع بالناس للخروج عن طبيعتها والإتيان بتصرفات مناقضة لتكوينها التاريخي. لقد طالعتنا الصحف في الفترة الأخيرة بأخبار تتحدث عن ازدياد أعمال البلطجة بدرجة لم يسبق لها مثيل ليس في الشرقية وحدها وإنما في جميع محافظات الجمهورية, لكن ما لم نعتده من قبل هو طريق التعامل مع هذه الجرائم من جانب المواطنين الذين طفح بهم الكيل. ففيما يتعلق بما حدث في الشرقية من محاولة سرقة سيارة أحد أبناء قرية بندف التابعة لمركز منيا القمح تحت تهديد السلاح تمكن الأهالي من الامساك بالأربعة المتهمين وتم قتلهم جميعا والتمثيل بجثثهم حيث تم ربط اثنين منهم علي أعمدة الكهرباء حتي لقيا مصرعهما وتم سحل الاثنين الآخرين بنفس السيارة التي كانوا يستخدمونها في السرقة والتي ظلت تطوف بهم شوارع القرية إلي أن فارقوا الحياة. وتأتي هذه الواقعة ضمن سلسلة مماثلة من التعاملات مع الخارجين علي القانون الذين يستغلون الفراغ الأمني السائد الآن في جميع أنحاء البلاد, وهي حالات لا يكتفي فيها بالقتل وانما يتم التمثيل بالجثث بمختلف الطرق, ففي قرية المساعدة التابعة لنفس المركز تم إلقاء القبض علي من حاولوا سرقة سيارة أخري لطالبين بجامعة الزقازيق, وقام الأهالي بضرب أحدهما إلي أن فارق الحياة, وفي مدينة مشتول تم القبض علي مسجل خطر قام باختطاف طفل رضيع للحصول علي فدية لكن الأهالي أمسكوا به وقاموا بتوثيقه بالحبال وتعذيبه إلي حين وصول الشرطة التي انتشلته من بين ايديهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وفي نفس القرية تم حرق ثلاثة بلطجية بعد أن قتلوا جزار القرية البالغ من العمر77 عاما بوابل من الطلقات وقد تمكن ابناء المتوفي من الوصول إلي الفاعلين الثلاثة وقاموا بحرقهم ووجدت رفاتهم متفحمة داخل أكوام القش بمنطقة كفر أبو زايد. وقد تنوعت الإجراءات العقابية فتضمنت أيضا الرجم كما شهدت قرية هرية رزنة حيث تم تعليق مسجلين خطرين علي عمودي انارة بعد أن جردا من ملابسهما وظل الأهالي يرجمونهما بالحجارة حتي فارقا الحياة, وذلك بعد أن قتلا أحد أبناء القرية بطلق ناري وسرقا التوك توك التابع له, وقد تم الرجم وسط تهليل أهل القرية الذين قالوا إنهم يطبقون حد الحرابة وأخذوا يصيحون: الله أكبر ويحيا العدل. ولقد وصلت نزعة القصاص من الخارجين علي القانون إلي حد لم يعد أصحابها يكتفون باعمال القانون, ففي قرية الشبراوين التابعة لمركز ههيا قام الأهالي بقتل اثنين من الأشقياء داخل المحكمة كانا قد سرقا سيارة سيدة تحت تهديد السلاح بالرغم من أنه تم إلقاء القبض عليهما وتقديمهما للمحاكمة. وحين تصل الأمور إلي هذا الحد بسبب غياب الأمن فإن عودة الأمن واعمال القانون لن يكون كافيا لضمان الاستقرار مرة أخري, فما نواجهه الآن من تغير في طبيعة الشخصية المصرية وتبدل في المنظومة الأخلاقية السائدة انما هو أخطر من غياب الأمن. المزيد من مقالات محمد سلماوي