بدأ الروائى الشاب إبراهيم أحمد عيسى مشواره الإبداعى عام 2014، وفى خمس سنوات فقط، أصدر أربع روايات هي: «طريق الحرير» و«البشرات» و«ابق حياً»، وأخيرًا، «بارى أنشودة سودان»، التى فازت أخيرا بجائزة كتارا للرواية العربية المنشورة، وغلب على هذه الروايات الغوص فى أعماق التاريخ، ومعالجة أحداث غير مشهورة، بشكل يُقَرِّبها من ذهن القارئ، ويكشف ما خفى منها. تُوِّجت بجائزة كتارا فى وقت مبكر من حياتك الإبداعية، فكيف ستستفيد مستقبلًا من هذا الفوز؟ حين تقدمت لجائزة كتارا لم أتوقع أبدًا الفوز، ليس لعلة فى النص أو الجائزة، ولكن لأن هناك عددًا كبيرًا من المتقدمين للجائزة، وصل إلى 562 رواية منشورة، ولم أتخيل يومًا أن تكون «بارى» فى الروايات الخمس الأولى، متفوقة على مئات من أقرانها. والجائزة، بحد ذاتها، حجر أساس لبداية جديدة، ولتحقيق المزيد من النجاحات، كما أنها دافع لى لتطوير كتاباتى، وتقديم الأفضل فى المستقبل. اهتمامك بالتاريخ انعكس على رواياتك الأربع، فما هدفك من الغوص فى أعماق التاريخ؟ الأمر أشبه بغواصى اللؤلؤ، فالتاريخ الإنسانى أشبه ببحر عظيم، وحين قررت كتابة الرواية التاريخية اتخذت سبيلًا جديدًا غير من سبقني، وهو البحث عن الكنوز المنسية، أى البحث عن مناطق وأحداث أهملها المؤرخون، وكل مهمتى هى التنقيب والبحث، وإضافة لمسة أدبية اجتماعية لإذابة الجليد عن الحدث، وعرضه بشكل يجذب القراء. هذا إلى جانب أننا، بالطبع، نتعلم من التاريخ، ونستخلص الفائدة من تجارب مَن سبقونا، فيُقال إن التاريخ يعيد نفسه، لذا يجب أن نتعلم ونعى دروسه. فترة الأمير «سودان الماورى» مع الشخصيات التى تناولتها فى رواية «بارى»، فترة مجهولة من التاريخ الإسلامى، لماذا اخترتها؟ وكيف جمعت مادتها التاريخية؟ سبب اختيارى لفترة الأمير سودان هو بحث تاريخى كنت أعكف على إعداده بعنوان «إمارات أوروبا المسلمة»، وكانت الإمارات الإسلامية فى أوروبا زمن الخلافة العباسية، وهى لم تأخذ حقها فى التدوين والتأريخ، فأغوتنى «بارى» لشُح المصادر التى تحدثت عنها، فكانت تلك الأحداث بيئة مثالية لأطلق العنان لخيالى، وأستكمل الفراغات التاريخية بقصص وحكايات اجتماعية عن ذلك الزمن المجهول. وكان البحث عن المصادر شاقًا جدًا، خاصة أن المصادر العربية بخيلة جدًا فى ذكر إمارة بارى، وكان علىَّ التوجه للبحث فى المصادر الأوروبية ووفقت فى ذلك. الخلفية التاريخية التى قدَّمتها للأمير سودان، وأسلوب بناء شخصيته، يؤكدان تعاطفك معه، هل أثَّر هذا التعاطف على كتابة الأحداث؟ قال لى أحد أعضاء لجنة التحكيم: «وكأنى أرى سودان يبتسم من فوق السحاب لحظة تكريمك وحصولك على الجائزة»، لقد كان إنسانًا بداخله الخير والشر، الحب والحرب، وكانت له اختيارات، وكل اختيار له عواقب خير أو غير ذلك، أما تعاطفى فلم يحظ به سودان فقط بل جميع شخصيات الرواية بنسب متفاوتة، لكن وجب تخليد الرجل. وكان بناء شخصيته فى غاية التعقيد، خاصة أنه شخصية حقيقية، واختلفت المصادر حوله، فمنهم من قال إنه كان عادلًا مؤمنًا، ومنهم من قال إنه كان سفاحًا وغازيًا، وشاربًا للخمر، لكنه فى النهاية إنسان، وربما كان الخونة على حق فى محاولة قتله، وربما كانوا على خطأ. كل هذه الأمور تركتها للقارئ ليحكم فيها، ويقرر بنفسه: هل كان سودان قويًا أم ضعيفًا، وهل كان سبب الهزيمة أم أملا فى النصر؟ كتبت كثيرًا عن الأندلس، سواء فى أبحاثك أو أعمالك الروائية، ماذا تريد أن تنقل للقارئ من خلال هذا الاهتمام؟ الأندلس الجنة المفقودة، لها شجن خاص فى عقول وقلوب العرب والمسلمين، فقد كانت ذروة هرم الحضارة الإسلامية، وقت أن كانت أوروبا تقبع فى غياهب الظلام، وربما كان هذا هو الدرس الأكبر الذى لم نستوعبه حتى اللحظة، فتاريخنا ملئ بالإيجابيات والسلبيات التى تتشابه مع واقعنا. دارت أحداث رواياتك ما بين الشدة المستنصرية وعصر الفاطميين وفتوحات المسلمين فى جنوب أوروبا، كيف تنتقى الأحداث التاريخية التى تعالجها فى رواياتك؟ انتقاء الأحداث ربما يخضع فى كثير من الأحيان لهوى الخيال، فأنا أقرأ، والخيال يجسد الأحداث والشخصيات، واختيارى ينصب على ما غفل عنه الأدباء والمؤرخون من أحداث حتى أحصل على التميز، المعالجة فى الرواية التاريخية تتطلب من الكاتب الإلمام بكل تفاصيل العصر وجوانبه الاجتماعية والسياسية والمعمارية، وكل الفنون حتى أصناف الملبس والمأكل. بم تتميز معالجة الإبداع للأحداث عن معالجة التاريخ؟ المعالجة فى الإبداع تقوم على استخلاص رؤية جديدة للحدث من جميع جوانبه، وتحليل أحداث التاريخ بصورة أكثر حيادية من خلال منظور يجذب القارئ فى قالب تشويقى، ورسم صور جمالية للعصر، مع وضع لمسات فنية للحياة وظروفها، ثم علينا أن نبنى آلة زمن لنقل القراء إلى حيث نريد، إن الأمر أشبه برسم لوحة تقص التفاصيل. يواجه من يكتب الرواية التاريخية مأزقًا إبداعيًا يتلخص فى كيفية مزج الأحداث والشخصيات الحقيقية بالخيالية فى نسيج واحد، دون أن يشعر القارئ بالفارق بينهما، كيف نجحت فى ذلك؟ المزج بين التاريخ والخيال أمر فى غاية الصعوبة بالفعل، ويحتاج إلى مجهود ذهنى رهيب، ولا يتم ذلك إلا بتعايش كامل داخل الأحداث والزمن، أن تكتب ما ينسجه عقلك وتراه عينك وتصدقه، وإذا نجح الكاتب فى ذلك فسيقتنع القارئ بكل شىء، ولن يمكنه التمييز بين الشخصيات الحقيقية والخيالية. هل سيغلب التاريخ على مشاريعك الإبداعية المستقبلية أيضًا؟ بالطبع، سيغلب التاريخ على أعمالي، فمشروعى الأدبى مستمر، وما زالت هناك مناطق مظلمة فى التاريخ بحاجة للكشف عنها، أنا أعلم أنى اخترت خطًا أدبيًا شاقًا ومتعبًا، لكنى أحب هذا النوع من الكتابات. هل تعتبر أن رواية «البشرات» استكمال لمشروع الراحلة رضوى عاشور الذى بدأته فى «ثلاثية غرناطة»؟ لا شيء يضاهى «ثلاثية غرناطة» ورواية «البشرات» مجرد قطرة فى بحر رضوى، حتى إن مئات الروايات التى كُتبت عن الأندلس، لن يكون لها أثر بجوار أندلس رضوى، فمشروعها باق وسنستكمله تمجيدًا لما قدمته وما علمتنا إياه، فكتابات رضوى عاشور لها شاعرية خاصة مليئة بالشجن والحنين لتلك الأزمنة التى كتبت عنها، كما أن لها مدرسة خاصة فى السرد أُفضلها على كثير من الكُتَّاب. دقة وصفك لأماكن الأحداث، وتوظيفك لها يوحى بدراسة مستفيضة، فهل تزور هذه الأماكن قبل الكتابة؟ وصف الأماكن يحتاج للزيارة بالفعل، ولكن شبكة الإنترنت سهلت الأمور، ووفرت لنا دراسات مستفيضة وخرائط مفصلة لجغرافيا الأماكن، ومهمة الكاتب إجراء دراسة شاملة للمكان، وبناء عالم مواز خيالى له واقعية سحرية. تعددت الجوائز الإبداعية الكبرى فى الوطن العربي، مثل كتارا والبوكر وأمير الشعراء، فهل نحتاج إلى جائزة مصرية تضاهى تلك الجوائز؟ مصر بحاجه لأن تكون فى الصدارة، الجميع يشهدون بأن مصر هى أرض الأدب والفنون، وكانت يومًا حاضنة العلوم وساحة التفوق على شتى الأصعدة، وأظن أننا بحاجة لجائزة كبيرة منبعها مصر، جائزة تضعنا على خريطة الجوائز العالمية، ولا تكون مقصورة على المصريين فقط، فمصر قلب العالم العربى، وعليها أن تكون كذلك دومًا.