في مثل هذا اليوم من مائة عام سكتت مدافع الحرب العالمية الاولى وتم توقيع اتفاقيات الهدنة لتلك الحرب التي استمرت من 28 يوليو 1914 الى 11 نوفمبر 1918. وبهذه المناسبة تبدأ اليوم في باريس ولمدة يومين اعمال مؤتمر القمة الذي دعا اليه الرئيس الفرنسي عديدا من قادة الدول للمشاركة في منتدى باريس لبحث سبل تحقيق السلام والحوكمة الدولية. ويشارك فيه الرئيسان الامريكي والروسي اللذان كانت بلادهما في خندق واحد في هذه الحرب. ومن اللافت للانتباه ان الرئيس ماكرون حرص على عدم تسمية المناسبة بالانتصار وذلك حتي لا ينكأ الجروح القديمة والعداوات التي انتهت فجعلها مناسبة للاحتفال بالهدنة والسلام ووجه الدعوة الى كل الدول التي شاركت في الحرب سواء تلك التي انتصرت فيها او انهزمت. لقد كانت هذه الحرب من اكثر حروب العالم شراسة وضراوة ودارت بين مجموعتين من الدول. دول الحلفاء ومنها: بريطانياوفرنسا وبلجيكا واليونان وروسيا وايطاليا والولايات المتحدة. ودول المركز ومنها: الامبراطورية النمساوية المجرية والامبراطورية العثمانية والمانيا ومملكة بلغاريا. بلغ عدد الجيوش المتحاربة 70 مليون ضابط وجندي وعدد القتلى على الجانبين 10 ملايين وعدد الجرحى ما يزيد على 21 مليونا. وأدت الى تحولات جوهرية على خريطة العالم السياسية فنشبت الثورة البلشفية في 1917وتفككت امبراطوريات ونشأ على انقاضها عدد كبير من الدول. واقيمت عصبة الامم كتنظيم دولي ومعها نظام الانتداب الذي فرض على فلسطين وسوريا ولبنان وغيرها. شهدت سنوات الحرب اندلاع الثورة العربية الكبرى 1916 واتفاقيات سايكس بيكو 1917 ثم وعد بلفور في 2 نوفمبر 1918 اي بعد التأكد من انتصار الحلفاء وقبل توقيع اتفاقيات الهدنة ب 9 أيام. وأريد التركيز في هذا السياق على دور مصر في دعم الحلفاء وقيام قواتها المسلحة بأدوار مهمة. كانت بريطانيا قد احتلت مصر عام 1882 وأصبحت هي السلطة الفعلية فيها ولكنها ابقت على صلة التبعية الاسمية لها مع الدولة العثمانية. ومع انضمام العثمانيين الى دول المركز المعادية لبريطانيا تم انهاء تلك العلاقة الاسمية واعلنت بريطانيا الحماية على مصر. ومع تطور احداث الحرب طلب الجنرال البريطاني ماكسويل قائد قوات الحلفاء في اوروبا والذي كان قد سبق له مشاهدة اداء العسكرية المصرية عن قرب في السودان عام 1897 ونالت تقديره. فقد طلب مشاركة القوات المصرية على الجبهة الاوروبية. وهو ما تحقق بموافقة مجلس الوزراء المصري في اغسطس 1914 على دخول الحرب في صف الحلفاء. واتخذت المشاركة المصرية ثلاثة اشكال رئيسية. الاول هو الدفاع عن الحدود المصرية وتأمينها ضد هجمات دول المركز. ففي الشرق واجه الجيش المصري الحملة العثمانية في سيناء وانتصرت الاورطة الثانية بقيادة مصطفي حلمي عليها في معركة الطور في 12فبراير 1915. وفي الجنوب قامت القوات التابعة لسلطان دارفور علي بن دينار وبمساعدة قوات عثمانية وألمانية بهجوم مماثل فتصدت لهم القوات المصرية ولاحقتهم داخل السودان وألحقت بهم الهزيمة في برنجية وهي إحدي المناطق التابعة لمدينة الفاشر في مايو 1916. وفي الغرب شنت القبائل السنوسية بقيادة ومشاركة عثمانية هجوما نجح في احتلال مرسي مطروح وسيوة والداخلة والخارجة وواجه الجيش المصري هذا الهجوم وحسم الامر في معركة عجاجيا في 1918. وفي الشمال فرض الاسطول العسكري الالماني حصارا بحريا لمنع وصول السفن البريطانية الى الاسكندرية وبور سعيد . والشكل الثاني هو دور الجيش المصري في المنطقة العربية. ففي فلسطين قام المصريون بتنظيم قوافل الامداد بالتموين والذخائر الى القوات البريطانية فيها. وفي الحجاز شارك عدد من الفصائل المصرية لدعم ملك الحجاز ضد العثمانيين تحت وطأة القنابل والمدافع. وامتد دور الجيش المصري الى العراق فدعم الحملة الهندية على خطوط القتال وخلفها وقام فترة بتنظيم الأمور الإدارية في بغداد. اما الشكل الثالث فكان في اوروبا نفسها فقد ارسلت مصر 100 ألف ضابط و جندي من فيلق الهجانة وفيلق العمال( المهندسين حاليا) الى جبهات القتال في فرنسا وبلجيكا وايطاليا واليونان قاموا بحفر الخنادق وتمهيد الطرق وكان ذلك العمل من اهم اعمال الحرب وقتذاك التي اعتمدت على حرب الخنادق. وتحملت الحكومة المصرية كل نفقات مشاركة القوات المصرية في هذا العمل. واستشهد كثير منهم ودفن في مقابر الكومنولث في هذه الدول وسجل علي كل قبر الاسم والوحدة التي ينتمي اليها في الجيش المصري وحفر على بعضها تعبير البقاء لله. بلغ عدد القوات المصرية التي شاركت على جبهات الحرب العالمية الاولى مليونا و200 ألف ضابط وجندي وتبدو دلالة هذا الرقم عندما نقارنه بإجمالي عدد السكان وهو 10 ملايين اي ان مصر شاركت في هذه الحرب بأكثر من 10% من سكانها. و قام هؤلاء بجهود متميزة في اعمال الحرب واستحق عدد كبير منهم الاشادة من جانب اكثر من قائد عسكري اوروبي وتم منح عدد منهم اوسمة عسكرية رفيعة بما في ذلك وسام فيكتوريا وهو أعلى وسام عسكري بريطاني منح بقرار من الملك جورج الخامس. اضف الى كل ما تقدم ان مصر استقبلت على اراضيها جيوشا من 18 دولة وفرت لهم الغذاء والخدمات الطبية واللوجستية. لذلك كان من الطبيعي خلال الاحتفال بمئوية بدء الحرب في 2014 ان تم رفع العلم المصري ضمن اعلام دول الحلفاء التي شاركت فيها. وانه عندما قررت الحكومة الأسترالية توسيع النصب التذكاري لضحايا الحرب فإنها طلبت من مصر حفنة من ترابها باعتبارها شريكة في هذه الحرب وتم تسليم هذه الحفنة من اراضي سيناء والعلمين والإسكندرية في 5 مايو من هذا العام . فتحية الى هيئة البحوث العسكرية التي تتولى مسئولية توثيق التاريخ العسكري لمصر وللمهام التي قام بها الجيش المصري ود. اشرف صبري الباحث في التاريخ العسكري الذي كان له فضل السبق في الاهتمام بهذا الموضوع والكشف عن تفاصيل الدور المصري في ارشيفات وثائق الدول الاوروبية. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال