فى مصر هجوم آثم غادر على إخوتنا الأقباط على الطريق إلى دير الأنبا صموئيل بالمنيا، وفى باكستان مظاهرات وفتاوى اغتيال وعنف بعد تبرئة المواطنة المسيحية آسيا بيبى التى حكم عليها بالإعدام بموجب قانون التجديف الأحادى الجانب الذى يسهل توظيفه لابتزاز واضطهاد المختلفين فى العقيدة. الواقعة فى باكستان كان من الممكن أن تمر بدون هذا الصخب، فهى مجرد مشادة بين مسيحية وجاراتها المسلمات، قادت لدفاع كل طرف عن معتقده عندما زُج بالدين فى الحوار، لكن فى بلادنا لا تمر تلك القصص دون تصعيد وتحشيد جماهيرى وتعطيل للمصالح وإثارة للشغب والفوضى. ما الذى حشر مجتمعاتنا داخل تلك المتاهة، فى حين تزدهر المجتمعات الغربية المنهمكة فى الاكتشافات الحديثة وعلوم الفلك والهندسة والطب والفضاء الخارجى بعد أن عالجوا ملف الدين والمذهب ووضعوه فى موضعه وصاروا يعرفون كيف يتعاطون بشأنه، فى المقابل تجد غالبية شعوبنا تملأ الشوارع فى مظاهرات زاعقة وصدامات لا تنتهى، يطلقون الشعارات ويثيرون الصخب ويحولون جدالًا بين جارتين إلى حرب أهلية ويثيرون الفتن الطائفية ويقتلون المسيحيين فى أثناء صلاتهم أو وهم ذاهبون للصلاة، وبالطبع تتصدر هذا المشهد وتقوده جماعات ما يعرف بتيار الإسلام السياسى المتشددة، وهذا واقع حالنا منذ مطلع القرن. يربط بين الإرهابيين والمتطرفين فى مصر والإرهابيين والمتطرفين فى باكستان خيط منهجى واحد، وتحركهم فكرة خبيثة مستحدثة أُلصقت بالدين، اخترعها رجل واحد وحظيت بمن يرعاها وينمقها وينشرها وينفق عليها المليارات. أصل هذه المعضلة شخص يُدعى أبو الأعلى المودودى الذى اخترع تفسيرًا جديدًا للدين الإسلامى ونشره على نطاق واسع بمساعدة البعض من رفاقه داخل الجماعة التى أسسها، وانطلاقًا من الهند راجت فى باكستان ثم حظيت بعناية سيد قطب القيادى الإخوانى المصرى الذى زخرف هذا التفسير المحرف بعبارات بلاغية معتمدًا على مقدرته البيانية لينشره فى البلاد العربية على أرضية كان قد مهد لها وحرثها قبلهما حسن البنا. اختراع المودودى كان قد دحضه وأوضح ما به من تحريف فى قلب بلد المنشأ العلامة الهندى القدير مولانا وحيد الدين خان، والذى ألف كتبًا غاية فى العمق والأصالة ومنها دراسات فائقة الروعة ردًا على اختراعات المودودى، لكن لم يحظ فكر وحيد الدين خان بجماعات تنصره وتنشره، ولا بأقلام تزين زيفه بعبارات بلاغية كما فعل سيد قطب مع أفكار المودودى، ولذا غلب على المسلمين والعرب الشغب والصخب وإثارة الفوضى وتسييس الدين وتحويل جزئياته إلى كليات وفروعه إلى أصول والمتغيرات إلى ثوابت، ومكث المسلمون على هذا الحال عقودًا فلا يزالون يخرجون فى مظاهرات حاشدة رافعين أيديهم وفاتحين أفواههم فى الشوارع، فيمَ العالم من حولنا يسبقنا بخمسمائة عام إلى المستقبل. كشف المفكر الإسلامى وحيد الدين خان فى كتابه التفسير الخاطئ الذى صدر فى ستينيات القرن الماضى انحرافات منهج المودودى الذى حاول مرارًا إحباط عزيمة خان حتى لا يفضح تحريفه للإسلام لأهداف سياسية، وملخص تلك المآخذ أن المودودى فسر الدين تفسيرًا سياسيًا وضّخم شأن السياسة فصار كل شيء متعلقا بالإسلام يُرى بمنظارها. منح المودودى السياسة المقام الرئيسى فى الدين الإسلامى وأظهر الدين سياسيًا فصار الدين تابعًا للسياسة وصارت هى الهدف الذى أرسل من أجله الرسل فقد قال المودودى إن الغاية المنشودة من رسالة أنبياء الله عليهم السلام فى هذه الدنيا أن يقيموا فيها الحكومة الإسلامية. وربط بين الدين الإسلامى والحكومة بزعم أن السلطة فى الشريعة معناها أن يستسلم الناس أمام قوة جبارة قاهرة ويذعنوا لها وهى الحكومة وهذا هو معنى الدين أيضًا، زاعمًا بأن العبادات كالصلاة وغيرها لا تقبل بمجرد أدائها كما فى الديانات الأخرى إنما هى وسيلة إعداد لإقامة الحكومة الإلهية. يرد مولانا وحيد الدين خان على تحريفات المودودى تلك فى كتابه التفسير الخاطئ، ومن ضمن ما أورده توضيحه لخطأ استدلال المودودى على مزاعمه بقول الله تعالى من سورة الشورى : «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» بعدما زعم المودودى أن هذه الآية دالة على أن المراد بالدين هو الأحكام والقوانين الشرعية التى تتعلق بالأمور الفردية والجماعية المحلية والدولية، ومعنى إقامة الدين أى تنفيذ أحكامه وقوانينه، ومن المعلوم أنه لا يمكن إقامة الدين عند المودودى إلا بالحكومة فمعنى أن أقيموا الدين أى أقيموا الحكومة. يجزم وحيد الدين خان بأن هذا التفسير المخترع لم يقل به أحد من المفسرين وجميع علماء الإسلام منذ الصحابة وحتى العصر الحديث لأن المراد بالدين فى الآية هو أصل الدين أو التعاليم الدينية الأساسية وليس كل الدين ولا يعنون بإقامة الدين تنفيذ النظام الشرعى بين الناس بل المراد التمسك بذلك الجزء من الدين المطلوب من كل فرد فى كل حين ولا يكون المسلم مسلمًا إلا به إذا طبقه فى حياته أو كما جاء فى مدارك التنزيل, سائر ما يكون المسلم بإقامته مسلمًا. ينصرف الأمر بإقامة الدين إلى الدين الذى نزل على جميع الأنبياء من نوح إلى محمد عليهم جميعا السلام، ولكن التعاليم التى نزلت على الأنبياء لم تكن واحدة بل المتفق عليه بين الأنبياء هو العقائد والأصول الأساسية، بينما الشرائع المفصلة والأحكام العملية كانت مختلفة بينهم، فالمراد بالدين ذلك الجزء الذى كان مشتركًا بين الجميع كما قال الإمام الرازى فى التفسير الكبير. تفسير خاطئ للدين نشره وينشره أدعياء أصحاب أهواء هو ما أوصل مجتمعاتنا لهذا الحال، وحان الأوان أن نوقفهم ونرعى وننشر التفسير الصحيح، وإلا ظللنا على وضعنا لألف سنة أخرى قادمة نزعق فى الشوارع ويقتل بعضنا بعضًا فيمَ الأمم حولنا تتقدم وتصنع أمجادها. لمزيد من مقالات هشام النجار