راح الشاب اليافع, الذى عاد من اليابان قبل أيام بعد أن أمضى بها زائرا شهرا أو نحو الشهر, يحكى لنا بامتعاض شديد كيف أنه لاحظ أن المواطن اليابانى يقتر على نفسه فيتقشف حيث لا ينبغى له التقشف. سألناه مندهشين: كيف يعني؟ هيا قل لنا ماذا رأيت. قال إن رب الأسرة التى استضافته ليومين هو طبيب كبير هناك، وعنده من الملايين الكثير، ومع ذلك فإن ملبسه ومأكله وتصرفاته لا تدل أبدا على هذا الثراء.. ثم لوى الشاب شفتيه متأففا وهمس: كيف لا تستمتع بحياتك بالطول والعرض مادمت غنيا؟ تبادلنا نحن الجالسين حول الشاب النظرات والابتسامات ذات المغزى وسألناه: فماذا كان هذا الطبيب الكبير يفعل بالضبط حتى أصدرت أنت عليه هذا الحكم القاسي؟ أجاب: تصوروا.. لقد كان يمر قبل النوم على جميع الغرف فيتأكد من أن النور مطفأ، وأن صنابير الماء بالبيت كلها مغلقة بإحكام، بل والأكثر من ذلك (هكذا أضاف الشاب مستنكرا) فإن الرجل يروح إلى عمله كل يوم ويعود بالمترو مع أن لديه سيارة على أحدث طراز.. ثم أردف: حتى أكل الأسرة كان عاديّا جدا يكاد يكون كطعام أى موظف بسيط من هؤلاء الذين يوجدون بكثرة عندنا! طبعا لم نشأ أن نقسو على هذا اليافع وقد أدركنا أنه معذور لأنه ابن جيل نشأ وترعرع على ثقافة استهلاكية خادعة لا تعبر عن الواقع الاقتصادى الحقيقى فى هذا البلد. ومع ذلك رحنا فيما بيننا نفند ما حكم به هذا الابن ومدى خطأ الاستنتاجات التى توصل إليها. قال قائل إن اليابان لم تبن صرح نهضتها الشامخة تلك، ولا حققت تقدمها المذهل هذا، إلا من خلال هذا السلوك المنضبط الواعى فى الإنفاق. وشرح آخر أنه لولا الادخار الأسرى الذى تمارسه الأسر هناك ما كانت اليابان هى اليابان التى ننحنى اليوم لريادتها تبجيلا واحتراما (وأحيانا حسدا!). ..ثم قادنا الحديث إلى محاولة معرفة سر هذا السفه الاستهلاكى الذى نتمرغ فيه حتى الأذقان إلى الحد الذى جعل ابننا هذا يعتقد خطأ أنهم هناك فى طوكيو يقترون على أنفسهم على الرغم من أن سلوكهم هذا هو الواجب الاتباع والاحتذاء. والغريب أننا فى عقلنا الباطن الموروث منذ مئات السنين ما ننفك نردد أمثالا مثل: على قد لحافك مدّ رجليك، أو يا مستكثر.. إن الأيام أكثر، أو القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود.. وغير ذلك من الكلام اللطيف الظريف الذى نكرره كل يوم ولا نطبقه. رحنا إذن نتبارى فى ذكر مظاهر إسرافنا المتهور فى بيوتنا وشوارعنا وأماكن أعمالنا شاعرين بأننا جميعا مدانون ومقصرون ومسرفون. ولفت واحد منا أنظارنا إلى أننا ننام كل ليلة ومعظم أنوار البيت مضاءة، وفى كل الغرف مكيفات ومراوح تئز أزيزا دون أن يكلف أى من الأبناء الأعزاء نفسه بإغلاقها إذا غادرها.. (ثم مع طرقات موظف الكهرباء على الأبواب طالبا تسديد الفاتورة نلطم الخدود ونشق الجيوب!). ونبهنا صديق آخر إلى أن غالبيتنا نلقى بنصف الطعام المطهو إلى القمامة بعد أن يكون قد فسد مركونا فوق رخامات المطابخ.. وأضاف: ولن أذكّركم بمسألة الخبز الذى يقضم الولد أو البنت منه قضمة أو قضمتين ثم يلقيه ليكسوه العفن! نعم.. نحن مسرفون.. ومن العبث التذكير بأننا مقبلون على أيام لا مفر فيها من الربط على البطون والكف عن هذا السرف اللامنطقى واللا إنساني.. ولن يصدقك أحد إن أنت قلت إن الأسعار ستنخفض قريبا.. لا يا حبيبى إنسَ. طيب بعيدا عن تبكيت الذات وحرقة الدم هذه ماذا يمكن أن نفعل؟ الحق أننا فى أمس الحاجة إلى تفكير جديد وثقافة بديلة لما نحن عليه الآن.. وكفانا اختباء وراء وهم أن الحكومة هى المسئولة وهى التى عليها الحل.. إذ لا الحكومة فى يدها شيء.. ولا السماء ستمطر حلولا.. وإنما الحل بأيدينا نحن.. فماذا نفعل؟ تعالوا نفكر فى استبدال سلوكياتنا المستهترة فى الإنفاق تلك لتحل محلها رشادة لم يعد لنا عنها بديل وإلا فستكون العواقب وخيمة. مثلا.. لماذا لا تتضمن برامجنا التعليمية التى يتعلمها أطفالنا بالمدارس منذ نعومة الأظفار مناهج تحث على التقشف مع الشرح لهم بأن التقشف لا يعنى البخل وإنما هو ضرورة من ضرورات الحياة؟.. ولماذا لا يكثف الإعلام برامجه الداعية إلى تحقيق تلك الرشادة مع عرض خطوات عملية لهذا الخفض فى الإنفاق؟ وهل خبراء الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس لدينا عاجزون عن تقديم تلك الخطوات بحيث نحقق أعظم استفادة بأقل التكاليف؟ هل هى معضلة؟ ..لماذا لا نعلم ربات البيوت عندنا الكف عن شراء لوازم البيت بالكيلو ونستبدلها بشراء تلك المستلزمات بالعدد (بعدد أفراد الأسرة يعني).. وكفانا ملء الأكياس من السوبر ماركت بأشياء يعجز المرء عن حملها فيستعين بصديق. ولماذا لا نقسم رغيف الخبز إلى أربعة أرباع فإن أردنا الأكل سحبنا ربعا فقط أو ربعين بدلا من إلقاء معظم الرغيف إلى القمامة؟ ولماذا لا نعلم أبناءنا ترك السيارة يوما أو يومين وركوب المواصلات العامة.. وهل نحن أهم من وزراء الغرب الذين يذهبون إلى أعمالهم فى المترو؟ يا ناس.. إنه حتى فى الوضوء يجب ألا نسرف فى الماء حتى لو كنا على نهر جار.. أليس هذا ما يطالبنا به الدين؟ طبعا تبقى كلمة نهمس بها فى آذان الموسرين منا الذين بلغ عندهم استعراض العضلات فى الإنفاق حد التبجح: نرجوكم.. اتقوا الله فينا فلم يعد فى قوس الصبر من منزع! لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات