إحدى القضايا الكبرى التى تشغل الدوائر الفكرية فى العالم هذه الأيام هى القضية المتعلقة بالجدل بين أنصار القومية وأنصار العولمة. أنصار القومية يؤكدون أهمية الحفاظ على سيادة الدولة ومصالحها وقيمها الوطنية، وعدم ربطها بأى كيان عولمى يسلب جانبا من سيادتها أو يحد من تبنيها لمصالحها العليا. أما أنصار العولمة فيتحدثون عن القرية الكونية التى تندمج فيها دول العالم فى القيم والمؤسسات، وتنصهر فيها مصلحة الدولة مع مصلحة هذه التوجهات الكونية. الجدل بين الفريقين أخذ بعدا سياسيا تمثل أحد مظاهره فى خطاب الرئيس الأمريكى ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أسابيع قليلة والذى ذكر فيه: نحن نرفض أيديولوجية العولمة ونقبل الأيديولوجية الوطنية. وسبق ذلك حالة المد السياسى القومى التى شهدها العالم فى السنوات الأخيرة، وكان أحد مظاهرها وصول الرئيس ترامب الى البيت الأبيض حاملا شعار «أمريكا أولا»، وقيامه بالهجوم على العديد من الأفكار الممثلة لظاهرة العولمة مثل تحرير التجارة ومنظمة التجارة العالمية، وتبنيه منطق الاتفاقيات التجارية الثنائية بين بلده ودولة أخرى وليس الاتفاقيات التجارية فى إطار تكتلات اقتصادية كبري، وقيامه بانسحاب بلاده من اتفاق الشراكة التجارية فى المحيط الهادي، وكذلك من اتفاق باريس المنظم لحماية البيئة فى العالم. العديد من الدول الأوروبية شهدت أيضا تصاعدا فى نفوذ التوجهات القومية، كما فى حالة خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي، وتزايد قوة الأحزاب القومية اليمينية فى دول مثل ألمانيا والنمسا والمجر. ولم يقتصر الأمر على أوروبا حيث رفع عدد من القادة الآسيويين شعارات قومية مثل رئيس الوزراء اليابانى شينزو أبى والهندى ناريندرا مودي. أنصار العولمة يرون أن القومية هى قوة سياسية رجعية، ومدمرة بطبيعتها، وأنها الخطر الأعظم فى العصر الحديث، لأنها قد تؤدى الى الصراع بين النعرات القومية المختلفة والتى تشعر كل منها أنها الأفضل من الأخري، كما أن الأغلبية القومية قد تجور على حقوق الأقليات التى ترى أنها مختلفة عنها، ويؤكد هؤلاء أن العولمة القائمة على المبادئ الليبرالية هى النظام الأمثل للازدهار البشري. أما أنصار القومية فيتحدثون عن فضائلها فى بناء الدولة الحديثة، وخاصة بعد الحروب الطاحنة التى شهدتها القارة الأوروبية ومنها حرب الأعوام الثلاثين، والتى أعقبها توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648، وأدت لقيام الدولة القومية وازدهر فى إطارها التعددية وقيم الحداثة والتسامح الدينى بين أنصار الطوائف المختلفة. ويشير هؤلاء الى أن المشاعر القومية أسهمت فى تحرر الدول النامية من الاستعمار، وأن الهوية الوطنية أمر ضرورى لقيام الديمقراطيات والدول الحديثة. ولكنهم يتحدثون أيضا عن فشل مبادرات العولمة التجارية فى تحقيق التنمية المتوازنة والتى تشمل الجميع، وكذلك محاولات طمس الهوية الثقافية للدول فى إطار منظومة قيم عالمية، ويرون أنه من الصعب توحيد العالم فى نظام واحد. فريق ثالث حاول أن يجد طريقا وسطا ما بين العولمة والقومية، وأحد ممثليه هو جون جوديس, الذى نشر حديثا كتابا بعنوان: النهضة القومية.. التجارة والهجرة والثورة ضد العولمة, ويتبنى فيه فكرة أنه يجب ألا يكون هناك بالضرورة صراع بين القومية والعولمة، ويرى أنه كانت هناك مبالغات فى تبنى سياسات تحرير التجارة التى وضعت مصالح الشركات على العمال، وأن حرية حركة الشركات أدت إلى سباق عالمى حول الحد الأدنى للأجور والضرائب وأسهمت فى عدم المساواة داخل الدول وبين الدول المختلفة، وأدى تحرير الهجرة الى خفض الأجور المحلية والصدام الثقافي، ولكن يرى أنه من الخطأ معالجة ذلك من خلال سياسات الانعزال وتبنى توجهات عنصرية. ويشير الى أن الرئيس ترامب والقوميين الأوروبيين ليسوا تجسيدا لنظام جديد ولكنهم أعراض فشل السياسات التى اتبعها القادة الغربيون على مدى ثلاثة عقود، وأنه يتعين على الليبراليين وأنصار العولمة أن يستجيبوا بطريقة بناءة لرد الفعل القومى على العولمة بدلاً من رفضه، وأن الحل هو تبنى توليفة بين القومية والعولمة. فهل يسير العالم فى هذا الاتجاه؟!. لمزيد من مقالات د. محمد كمال