من ضمن ما أتأمله دائما فى الأفلام، كيفية تعامل البشر مع معضلة الحياة. وأى تقنيات يستخدمونها لكى تلين معهم، وأى ألعاب يمارسونها لكى تمضى أيامهم دون أن تسحقهم عجلاتها، السينمائيون الموهوبون أصحاب بصيرة حقا، ويجعلوبنا نرى جوانب فى هذه الدنيا لم نلتفت اليها يوما، ويبدو أن هذا هو سحر السينما، ذلك الفن المركب الذى فى ظاهره شىء مسل، لكنه ما بين طياته اسرار تجده أعظم من الغذاء واقوى من الشعر. انه ليس تنويما مغناطيسيا فحسب، انما نداهة حقيقية، ثمة بعض الأفلام التى تنتمى لهذا النوع الرائع تعرض هذه الايام فى مهرجان الجونة السينمائى، على رأسها الفيلم البولندى «وجه» اخراج مالجورزاتا زوموفسكا، ويحكى عن جاك الرجل المتفائل الذى يعيش فى احدى القرى ويمارس حياته بكل بساطة، يعشق موسيقى الهيفى ميتال، وخطيبته وعائلته وقريته الصغيرة وكل أصدقائه، وفى أثناء عمله فى انشاء اطول وأكبر تمثال للمسيح، تحدث له حادثة ويتشوه وجهه تماما، وتتوجه أنظار بولندا كلها لعملية التجميل التى ستجرى لجاك، حتى إنهم يصفونها بأنها نقل وجه، لكن قبل أن يتحقق ذلك، يتحول جاك فى نظر كل من حوله لوحش على قدمين بسبب تشوه وجهه، وبعد اظهار مساندته فى البداية يتخلى عنه الجميع شيئا فشيئا، وهكذا حال المخرج فى كل أفلامه، اظهار التناقض بين روح الانسان وجسده، لكنه ذهب إلى ابعد فى هذا الفيلم الى اظهار التناقض بين ظاهر بلد وروحه، وقد استحق الفيلم الجائزة الكبرى بمهرجان برلين السينمائى الأخير. سعيد مثل لازارو, فيلم ايطالى يتحدث هو الآخر عن البراءة، يحكى عن لازارو الفلاح الساذج الذى يعيش فى قرية نائية ويستغله الآخرون لقوته وقوة تحمله، يصادق تانكريدى، وهو شاب غنى لكنه مكروه الى حد كبير، رغم خياله الواسع، الاخير يدخله الى عالم آخر ويطلب منه مساعدته، لكنه يختفى، فيذهب لازارو الى المدينة للبحث عنه، هذا هو ظاهر القصة التى اقرب الى الأسطورة انما باطنها عن الطيبة وعن الخير والشر فى نفوسنا كبشر، قوة المجاز فى دراما الفيلم تدفعنا لإعادة تقييم مفاهيمنا عن القوة والضعف، وعن السذاجة والطيبة، الفيلم الآخر المثير جدا هو كايلاش للمخرج الامريكى ديريك دونن، الذى حصل به على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان صاندانص: أهم مهرجان سينمائى فى الولاياتالمتحدةالامريكية، ويقدم فيه نوعا آخر من اللعب مع الدنيا، لكنه لعب ايجابى بكل الطرق، فهو يتابع الناشط الهندى الشهير كايلاش ساتيارسى فى رحلة مع فريقه لإنقاذ أطفال ضحية للاتجار بهم من العصابات المعنية بذلك، ورغم أن الفيلم تسجيلى، لكن المخرج حوله الى فيلم اثارة من الدرجة الاولى: كاميرا محمولة، ولقطات مهزوزة، وايقاع لاهث، والتصوير لحدث حقيقى. الفكرة بدأت عند هذا الناشط الهندى منذ أن كان طفلا، وكان يجبر على العمل، فنظر لكل الاطفال العاملين بالسخرة، وقال من أجبرهم على ذلك؟ وبدأ رحلته فى تحريرهم وأنشأ منظمة خيرية هى: حركة انقاذ الاطفال التى قامت بتحرير 80 ألف طفل من العبودية الحديثة. وقد تعرض كايلاش للكثير من المخاطر فى سبيل تحقيق هذا الهدف، فحاولوا قتله لكنه نجا ، وقتلوا بعضا من رفقائه بالفعل. وأصيب عشرات المرات، لكن أكمل طريقه ليصبح مثالا، تشرف السينما أن تقدم قصته ومسيرته بكل فخر. الوريثتان يقدم لعبة اخرى لبطلتيه مع الحياة، وهى لعبة مقاومة تقلبات الزمن، الفيلم يحكى عن سيدتين فى باراجواى ظلتا طوال ثلاثين عاما تنعمان بالثراء بسبب أصولهما الغنية، لكن الفقر أحاط بهما شيئا فشيئا حتى أوقعهما فى حبائله. بدأتا بيع كل ما تمتلكانه، لكن ديون شيكيتا تقودها الى السجن، وشيلا صديقتها الاقرب تبدأ فى مواجهة واقعا مغايرا، فهل تنجح؟. بعض الافلام بالمهرجان تخص الواقع العربي، وفى القلب منه اهم قضايا المنطقة: الارهاب، حرب سوريا والاحتلال الاسرائيلى لفلسطين. فى فيلم مرزاق علواش «ريح ربانى»، نطالع شابا وفتاة يتم تكليفهما بعمل مسلح ضد معمل تكرير بترول فى صحراء بشمال افريقيا، شيئا فشيئا، نكتشف خلفياتهما، الشاب انطوائى وكان يقيم بقرية صحراوية، قبل ان يلتقى «نور» التى تعانى مشكلات نفسية أكثر منه. عندما «أضعت ظلى», فيلم سورى لسؤدد كنعان فاز بجائزة اسد المستقبل بمهرجان فينيسيا الأخير, عن ام شابة، نفد الغاز من منزلها وقت الحرب، فرحلت تبحث عن اسطوانة غاز فى محيط مدينة دمشق، أما الفيلم الفلسطينى «مفك» فيحكى عن نجم كرة سلة فى مخيم للاجئين، خرج من سجن اسرائيلى وواجه صعوبات الحياة بعدها فى محيطه، ومع خطيبته وفى كل أموره، تحية لفريق البرمجة بمهرجان الجونة، الذى اختار هذه الأفلام الرائعة. لمزيد من مقالات د. أحمد عاطف