* ماتيس تحفظ على فكرة خطة مضادة ل «داعش» دون إستراتيجية أوسع فى الشرق الأوسط * البنتاجون كان يرى أن الإدارات الأمريكية تفعل الأشياء «بشكل عكسى» فى المنطقة * قلق فى الإدارة الأمريكية لأن إسرائيل لا تستطيع الدفاع عن نفسها أمام «حزب الله * بحث مقترحات من بينها القضاء على 80% من سلاح الطيران السورى * خلافات عميقة بين أجنحة السلطة فى أمريكا حول السياسة الخارجية
يوم السبت، 25 فبراير 2017، وبعد خمسة أسابيع من تولى الإدارة الجديدة مهامها، دعا الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكى إلى اجتماع فى مقر إقامة وزير الدفاع فى المرصد البحرى القديم بالقرب من وزارة الخارجية. كان من الحضور عدد من مسئولى السياسة الخارجية والجنرال المتقاعد أنتونى زينى، وعدد من السفراء السابقين وبعض أفراد طاقم مكتب ماتيس. لم يكن هناك أثاث فى الغرفة. وجلسوا كلهم حول ما «يشبه» مائدة طعام. ظهر ماتيس ومعه أربع حقائب تشمل ملفات ومعلومات حساسة. قال وزير الدفاع للحاضرين إن الرئيس ترامب «مستمع جيد» ما دمت لم تصطدم بالأعمدة التى تشكل جوهر جدول أعماله. (الهجرة مثلاً وجد طاقم الرئيس صعوبة بالغة فى زحزحته قيد أنملة فيما يتعلق بها). وتابع ماتيس «وزراء الدفاع لا يختارون دائماً الرئيس الذى يعملون من أجله»،فضحك الجميع. ترامب ووزير الدفاع جيمس ماتيس كان موضوع الاجتماع هو خطة مضادة ل «داعش» أراد ترامب تنفيذها على الفور فى الأسابيع الأولى لتوليه الرئاسة. فلطالما انتقد ترامب الرئيس السابق باراك أوباما بسبب «ضعفه» المفترض فى القضايا الأمنية. لكن رغبة ترامب فى التحرك على جبهة «داعش» لم تكن بالضرورة المدخل الصحيح فى نظر وزير الدفاع. قال ماتيس للحاضرين: «إننا نفعل الأشياء بشكل عكسى». وواصل «نحن نحاول تصميم استراتيجية مضادة لداعش دون أى استراتيجية أوسع فى الشرق الأوسط. من الناحية المثالية، يجب أن تكون لدينا استراتيجية شاملة للشرق الأوسط، تكون الخطة حول داعش جزءا منها. لكن مطالب الرئيس تتضمن داعش أولا». وفى النهاية، كانت استراتيجية مواجهة داعش فى إدارة ترامب هى استمرار لاستراتيجية مواجهة داعش فى عهد أوباما، لكن مع مزيد من القصف. وفى كتابه «الخوف: ترامب فى البيت الأبيض»، يوضح بوب وودورد أنه ومنذ البداية كانت هناك خلافات بين أجنحة الإدارة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. فلم يكن مسئولو مجلس الأمن القومى الأمريكى من ناحية متفقين مع مسئولى وزارتى الدفاع والخارجية من ناحية أخرى حول الكثير من السياسات. وشكل وزير الدفاع ماتيس ووزير الخارجية وقتها ريكس تيلرسون «فريقاً» وظل الجنرال ماكماستر مستشار مجلس الأمن القومى بعيداً. فلم يستطع ماكماستر الانضمام لفريق ماتيس وتيلرسون. كما لم يستطع خلق كيمياء مع ترامب. ولاحظ بيرس بريبوس، رئيس هيئة موظفى البيت الأبيض عدم وجود تناغم بين ترامب وماكماستر.فعندما كان مستشارا للأمن القومى يأتى إلى المكتب البيضاوى لإجراء اجتماعات مقررة، كان ترامب يقول فى كثير من الأحيان: «أنت مرة أخرى؟ لقد رأيتك للتو». ويوضح وودورد فى كتابه: «كان أسلوب ماكماستر فى تبليغ ترامب بالإحاطات المخابراتية الحساسة، خاطئاً تماماً بالنسبة لشخصية ترامب. لقد كان عكس ترامب فى كل شىء. كان تجسيداً للنظام والانضباط، والتسلسل الهرمى والتفكير المستقيم، بينما يمكن لترامب أن ينتقل بك من النقطة (أ) إلى النقطة (ج)، ومن النقطة (ل) إلى النقطة (د)، ثم يعود بك إلى «(ج) و(س) و(د) مجدداً دون أى ترابط.ماكماستر كان مذهولاً، لم يكن قادراً على الانتقال بين النقطة (أ) و(ج)، بدون المرور ب (ب)». هذه التناقضات بين أجنحة الإدارة ظهرت فى سوريا ضمن ملفات أخرى فى الشرق الأوسط.
اقتلوا الأسد ففى صبيحة الثلاثاء 4 أبريل 2017، اتصل دونالد ترامب، وهو فى حالة من الغضب، بوزير دفاعه ماتيس فى البنتاجون. وكان هذا الشهر الثالث من رئاسة ترامب. استيقظ ترامب على صور ومقاطع فيديو حول هجوم بالأسلحة الكيماوية يفترض ان الحكومة السورية شنته على مدينة خان شيخون بمحافظة إدلب. كانت الصور تتضمن العشرات بينهم نساء وأطفال وهم يختنقون وتخرج من أفواههم رغاوى. قال ترامب بانفعال متحدثاً عن الرئيس السورى بشار الأسد،: «دعونا نقتله!... دعونا نذهب هناك. دعونا نقتل الكثير منهم». وكان لدى الجيش الأمريكى القدرة على إطلاق ضربة جوية سرية فى سوريا تستهدف مقرات القيادة السورية. وفى نظر البعض كانت الأرضية ممهدة. فقد اتفقت روسيا والحكومة السورية مع إدارة أوباما على عدم استخدام الأسلحة الكيماوية. وتوسط الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى اتفاق تقوم بموجبه الحكومة السورية بتدمير ما لديها من أسلحة كيماوية. وقد تمت إزالة 1300 طن من الأسلحة الكيمياوية من سوريا بناء على ذلك الاتفاق. واستفاد أوباما من هذا، معلناً فى 2014 عن «إنجاز مهم فى جهودنا المستمرة للتصدى لانتشار أسلحة الدمار الشامل من خلال القضاء على مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية المعلنة». وذهب وزير الخارجية جون كيرى إلى أبعد من ذلك، معلناً «لقد أخذنا 100% من الأسلحة الكيماوية». لكن فى عام 2016، قال جيمس كلابر مدير المخابرات الوطنية الأمريكية آنذاك «لم تعلن سوريا عن جميع عناصر برنامجها للأسلحة الكيماوية». مما جعل تحركات إدارة أوباما فى هذا الملف توصف بفشل استراتيجى. ولا شك فى أن ترامب أراد القفز على الأزمة لإظهار أنه أكثر حسماً من أوباما. رد ماتيس على ترامب قائلاً «نعم. سنتحرك فى الموضوع». قال ذلك وأغلق الهاتف ليقول لأحد كبار مساعديه «لن نفعل أياً من ذلك... سنكون أكثر توازناً». وحدد فريق وزارة الدفاع خيارات صغيرة ومتوسطة وكبيرة لضربة جوية تقليدية فى سوريا. ورأى ماتيس أن الإدارة «لديها فرصة ذهبية نادرة لتفعل شيئا... دون القيام بالكثير». لكن فى البيت الأبيض، بدأ ماكماستر مستشار الأمن القومى، وديريك هارفىرئيس مجلس الأمن القومى لشئون الشرق الأوسط اجتماعات لتطوير خيارات الرد على الهجوم الكيماوى المزعوم.
صراع الأجنحة وعلم ستيف بانون، المستشار السياسى لترامب بالتحركات لعمل عسكرى محتمل. وعندما التقى بانون مع هارفى فى مدخل الجناح الغربى للبيت الأبيض، سأله: «ماذا تفعل بحق الجحيم؟». فرد هارفى: «نضع خيارات للرئيس... لقد طلب الخيارات. هذه هى طريقة إدارة العملية».كانت «العملية» بالضبط هى ما يكرهه بانون. لقد رأى أن الأمور تتجه نحو العمل العسكرى تحت شعار «أمريكا شرطى العالم»، ودعوات «افعلوا شيئا» و«أصلحوا الأمور». كل هذا دون أن تتم الإجابة عن، السؤال الأكبر وهو: ما الذى تفعله الولاياتالمتحدة بالضبط بوجودها الكبير فى الشرق الأوسط. رأى بانون تأثير إيفانكا ترامب فى التحرك نحو العمل العسكرى، وكان يعرف أنها قادرة على التأثير على والدها أفضل من أى شخص آخر. فى رأى بانون «الرد العسكرى هو بالضبط ما لا يجب أن يسعى اليه ترامب». لكن فى تناقض حاد معه، كان ديريك هارفى غاضباً من طريقة إدارة سياسة الأمن القومى الأمريكى بنتائجها غير الحاسمة. وكانت سوريا «حالة كلاسيكية» فى هذا الصدد. كلمات وتصريحات ثم إجراءات «تقف فى منتصف الطريق بدون حل الأزمة». ويقول بوب وودورد فى «الخوف» إنه بالنسبة لهارفى، كان هجوم خان شيخون فرصة لرد عسكرى واسع. «لدينا فرصة هنا لفعل المزيد»، قال هارفى للجنرال ماكماستر مستشار الأمن القومى ، موضحاً: «علينا أن نفكر من حيث ضرب العديد من المطارات». وتابع هارفي: «اقض على القوة الجوية السورية لأن ذلك هو مصدر قوة الحكومة. نحن نحاول التأثير على الحل النهائى بوضع المزيد من الضغط على الحكومة من أجل العملية السياسية». واستطرد:«اقض على قوات السلاح الجوى السورى، ليس 15% أو 20%، بل 80%. وهذا يعنى استخدام 200 توماهوك، أكثر من ثلاثة أضعاف الخيار الثانى باستخدام 60 توماهوك فى الهجوم». فرد ماكماستر: «ديريك، أعرف، لكن علينا التعامل مع واقع ماتيس» (وزير الدفاع الأمريكى) الذى يرفض الاتجاه الذى يسلكه فريق الأمن القومى. أراد ماتيس ووزارة الدفاع أن تكون الإدارة حذرة فى تحركها. كان أى عمل عسكرى محفوفا بالمخاطر. فالروس كانوا يعملون فى المطارات السورية. وإذا سقط جنود وعسكريون روس فى الضربات الأمريكية ستدخل المواجهة فى سوريا أرضية جديدة. قتال مباشر بين أمريكاوروسيا ما يعد كارثة. وكان من المقرر عقد اجتماع لمجلس الأمن القومى لمناقشة الخيارات. وكان هناك ثلاثة خيارات: الأول: ضربة واسعة وكبيرة تقضى على سلاح الجو السورى تستخدم فيها 200 من صواريخ توماهوك. الثاني:ضربة مؤثرة لكن ليست واسعة يستخدم فيها نحو 60 صاروخ توماهوك. والثالث: تدخل محدود، شكلى أكثر منه فعال لحفظ ماء الوجه. استفاد بانون من امتياز التوجه بمفرده دون ميعاد للتحدث مع ترامب فى المكتب البيضاوى. وقال بانون لترامب إن جزءاً من تفادى الحروب غير الضرورية والالتزامات العسكرية فى الخارج أن لا يستجيب الرئيس للطريقة التى يقترحها مستشاروه للأمن القومى، أى ضربة عسكرية واسعة. فرد ترامب: «احضر الاجتماع... وتأكد عندما تتحدث أن يكون صوتك مسموعاً». لم يكن ترامب، على غرار بانون من المتحمسين لفكرة الانخراط العسكرى الأمريكى فى العالم. وهو ك »حمائى منعزل» يرى التدخل العسكرى والقواعد العسكرية الخارجية «تكلفة مادية »دون عائد. لكن حذر البنتاجون لم يكن يتعلق بالحمائية والانعزالية، بل بحدود قدرة أمريكا على التأثير فى الملف السورى وخطورة تحرك يؤدى إلى مواجهة أمريكية -روسية على الأراضى السورية. لكن فريق ايفانكا وهارفى وكوشنر كان لديه رأى مختلف. كانوا يأملون فى تحرك عسكرى واسع يحقق عدة أهداف استراتيجية فى الوقت نفسه. وفى اجتماع مجلس الأمن القومى عرضت الخيارات الثلاثة. كانت قائمة الأهداف المحتملة كبيرة ومرصودة. ففى عام 2013 عندما هدد أوباما بهجوم صاروخى، وافق على قائمة الأهداف بما فى ذلك مجمع حكومى يضم برنامج الأسلحة الكيماوية. لكن قائمة الأهداف التى وضعها ماتيس وفريقه فى البنتاجون لم تشمل ذلك المجمع الحكومى، لأن ماتيس أراد إبقاء الهجوم ضيقًا قدر الإمكان. وانحاز ماتيس للخيار الثانى وهو الهجوم على مطار الشعيرات العسكرى، شرق محافظة حمص ويعتبر المطار الأساسى لطائرات السوخوى22 ونظام الدفاع الجوى من طراز سام 6 وتتمركز فيه قيادة الفرقة الثانية فى الجيش السوري، باستخدام 60 صاروخ توماهوك. وسحب ماتيس مجمعا سكنيا فى المطار من القائمة المستهدفة بسبب احتمال وجود أسر وعائلات هناك. قال بانون رداً على مقترح ماتيس: «إذا كان هذا هو المعيار، دعنى أذهب لأحصل على بعض الصور لأفريقيا جنوب الصحراء.دعونا نرى ماذا يحدث فى جواتيمالا ونيكاراجوا. إذا كان هذا هو المعيار لضربة صاروخية، دعنا نذهب فى كل مكان. دعونا نفعل كل شىء «، وذلك فى تدخل ساخر محاولاً إثناء العزم عن أى عمل عسكرى لا جدوى منه. فقد وضح أن التوجه الآن فى الإدارة هو عملية سريعة من يوم واحد تكون بمثابة «رسالة». يوم الجمعة طار ترامب إلى ملاعب الجولف الخاصة به فى «مارلاجو» بفلوريدا، وعقد فى المساء اجتماعا لمجلس الأمن القومي. كان هناك 14 شخصاً، من بينهم ريكس تيلرسون، وبريبوس،وماكماستر ، وكوشنر، وبانون، وجارى كوهن مستشار ترامب الاقتصادي، ودينا باول نائبة مستشار الأمن القومي. كان ماتيس على شاشة الفيديو، يبحث الخيار الثانى أى الهجوم باستخدام 60 صاروخ توماهوك من البحر على الأهداف السورية، وهى الطائرات السورية على الأرض فى مطار الشعيرات، ومخازن الطائرات، ومرافق تخزين الوقود، ومستودعات إمدادات الذخيرة ، وأنظمة الدفاع الجوى والرادار. ترامب، الذى تراجع عن رغبته الأولى فى قتل الأسد، كان يركز بشكل غير عادى على التفاصيل. ويقول وودورد فى كتابه إن ترامب سأل: ماذا سيحدث إذا ضربنا مدرسة؟ إذا ضربنا مستشفى؟ أو هدفا لم نكن نهدف إلى إصابته؟ ما هى إمكانية قتل المدنيين؟. طمأنه ماتيس «لدينا أفضل السفن الحربية وأفضل العسكريين». ولاحقاً تم الاتفاق على أن توقيت الضربة سيكون يوم 7 أبريل،الساعة 4: 40 صباحاً بتوقيت دمشق. وقبل نحو 15 دقيقة من الضربة، ارسلت الإدارة الأمريكية تحذيرا إلى الروس فى مطار الشعيرات. وأعطى ترامب الضوء الأخضر للقيام بأول عمل عسكرى منذ توليه السلطة. أصاب 59 صاروخ توماهوك أهدافهم وسقط واحد فى البحر المتوسط بعد الإطلاق. وذهب ترامب لتناول العشاء مع الرئيس الصينى شى جين بينج الذى كان يزور ملاعب «مار لاجو» مع ترامب خلال زيارة رسمية.
الخطر الأول فى الشرق الأوسط كانت هناك مخاوف لدى ماتيس من أن ترامب قد يأمر بضربة ثانية، وعمل ،كما يقول وودورد فى «الخوف» ،على إخماد وتثبيط أى عمل عسكرى آخر فى سوريا. وبعد أسابيع هدأ غضب ترامب وتحول إلى مسائل أخرى. اشتكى ماكماستر مستشار الأمن القومى إلى جاريد كوشنر من افتقاره إلى السلطة فى منصبه. ومثل معظم وزراء الخارجية والدفاع ، لم يرغب تيلرسون وماتيس فى أن يكون هناك «مستشار قوى» للأمن القومى. وفى إحدى المرات بعد الضربة السورية، أراد ترامب بعض المعلومات حول التحركات الروسية والإيرانية فى سوريا، وذلك بعدما قتلت الولاياتالمتحدة بعض عناصر «حزب الله» فى ضربة استهدفت قافلتهم على طريق شرق تدمر، تم خلالها إسقاط طائرة «درون» إيرانية. طرح ترامب بعض الأسئلة على ماكماستر تحسباً لانتقام إيرانى من بينها: ماذا يحدث إذا قتل جنود امريكيون؟ ما هى الخيارات؟. اتصل ماكماستر بكل من تيلرسون وماتيس.لكن لم يتلق ردا. ومرت 9 ساعات دون أن يتلقى ماكماستر ردا من وزيرى الدفاع والخارجية. استدعى ماكماستر هارفى وقال له: هذه مسئوليتك. (بوصفه مديرا لمنطقة الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى). وفى النهاية اجتمع مسئولون من هيئة الأركان المشتركة مع مسئولين من مجلس الأمن القومى الأمريكى لبحث الخيارات، لكن فى النهاية لم يستطيعوا أن يقدموا إجابات حول ما يمكن أن يحدث إذا قتل أمريكيون فى بلدة التنف الحدودية السورية مع الأردن حيث تتمركز القوات الأمريكية. وكالعادة بعد أيام نسى ترامب أسئلته. لكن ظلت الفجوة بين فريقى الأمن القومى، ووزارتى الدفاع والخارجية. وهى الفجوة التى أدت إلى أن يسعى هارفى إلى العمل مع حلفاء فى البيت الأبيض مثل جاريد كوشنر. هارفي، شخص ذكى مفوه محب للتفاصيل مثل مخبر سرى فى جرائم القتل، دائما ما فعل الأشياء بطريقة مختلفة عن المألوف فى واشنطن. وكانت النتيجة فى بعض الأحيان تفكيرا غير تقليدى. وفى بعض الدوائر كان يشار إليه باسم «القذيفة» بسبب قدرته ورغبته فى تحدى الأفكار التقليدية السائدة. كان وحده تقريبا من تنبأ باستمرار العنف فى العراق وأفغانستان بعد غزو الولاياتالمتحدة العسكرى للدولتين. وكانت حجته فى كثير من الأحيان أن بعض أفكار التدخل الخارجى الطموحة «قابلة للتنفيذ ولكن غير قابلة للبيع»، أى لن تنال دعم السكان المحليين أو الجوار الإقليمى. ذهب هارفى لرؤية جاريد كوشنر، الذى كان لديه مكتب صغير مجاور للمكتب البيضاوى. وجلس كوشنر واستمع إلى ما يعرضه هارفى. كان قلق هارفى الأساسى فى الشرق الأوسط هو «حزب الله».ووفقا لتقديرات المخابرات الأمريكية فإن «حزب الله» لديه أكثر من 48 ألف عسكرى فى لبنان، يشكلون خطرا على أمن إسرائيل. كما أن لدى «حزب الله» 8 آلاف عنصر فى سوريا يساعدون القوات المحلية هناك. إضافة إلى عناصر فى اليمن ووحدات كوماندوز على مستوى المنطقة. بالإضافة إلى عناصر فى كولومبيا وفنزويلا وجنوب إفريقيا وموزمبيق وكينيا. وبتقدير هارفي، فإن «حزب الله» بات لديه 150 ألف صاروخ، بعدما كان لديه 4500 فقط خلال حرب 2006 مع إسرائيل. ويقول وودورد فى كتابه إن كوشنر اتفق على أن «حزب الله» بحاجة إلى مواجهة بطريقة أشد بعد تنفيذ الاتفاق النووى الإيرانى. وأخبره هارفى أن «الحرس الثورى الإيرانى» قد «اندمج فى بنية حزب الله»، مع قيام إيران بتحويل ما يقرب من مليار دولار إلى الحزب كل عام. وفى تحليل هارفى وكوشنر، كان «حزب الله» وكيلاً مثالياً لإيران لاستخدامه فى الضغط ومهاجمة إسرائيل. وفى تقديرهما «لن تكون دفاعات إسرائيل المتعلقة بالقبة الحديدية وصواريخ ديفيد وسلينج وآرو كافية» لمواجهة هجمات «حزب الله». وجادل هارفى بأن هناك إمكانية لحرب كارثية، مع عواقب إنسانية واقتصادية واستراتيجية هائلة، إذا نشبت مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، ففى هذه الحالة ستجد أمريكا نفسها مضطرة للتدخل وستفشل واشنطن فى بذل الجهود لتحقيق الاستقرار الإقليمى.وشدد هارفى لكوشنر بقوة: إن إدارة ترامب ليست مستعدة لما يمكن أن يحدث. وكان ماتيس بدوره قلقا بشأن التوسع الإيرانى. وقد أشار إلى المسئولين الإيرانيين ب «هؤلاء الملالى الأغبياء». وفى رأى كوشنر، كان الحل لذلك التهديد هو المزيد من التقارب مع الدول المعتدلة فى المنطقة. وقد اقترح على ترامب أن تكون أولى زيارته الخارجية للسعودية من أجل إرسال رسالة مفادها أن الإدارة الجديدة ستعطى دول المنطقة المعتدلة أولوية فى سياساتها الخارجية «على عكس أوباما». وكانت الفكرة جذابة جدا بالنسبة إلى هارفى. لكن وودورد يكشف فى كتابه أن ماكماستر عندما علم بفكرة كوشنر، سأل هارفى بعصبية: «من يدفع نحو هذا؟ «من أين تأتى هذه الأفكار؟». وكانت رسالة مستشار الأمن القومى الأمريكى لكوشنر وفريقه: تمهلوا وكونوا أكثر حذرا. وبالنسبة لوزير الدفاع الجنرال ماتيس كان متفقا مع ماكماستر وفريقه فى هذا الموضوع. وقد رأى أن الجدول الزمنى المقترح للزيارة قريب جدا وهناك ترتيب مبيعات الأسلحة ومشاريع أخرى مفيدة لاقتصاد الولاياتالمتحدة. والتحضير لمثل هذه القمة، سيستغرق وقتا طويلا». وخلص ماتيس «من الأفضل لنا الانتظار حتى العام المقبل. يجب أن تكون الإدارة الجديدة أكثر حذرا». وأمام ضغط الجدول الزمنى وعدم تحمس مجلس الأمن القومى ووزارة الدفاع، حاجج كوشنر، الذى أراد توجه ترامب للسعودية خلال شهرين، قائلا: »أنا أفهم المخاوف، لكن أعتقد أن لدينا فرصة حقيقية هنا. علينا أن ندرك ذلك. أنا أفهم أن علينا أن نكون حذرين. دعونا نجهز للزيارة كأنها ستحدث. هذه فرصة جاهزة للاقتناص». لم يعارضه أحد. وواصل مجلس الأمن القومى والبيت الأبيض ووزارتا الدفاع والخارجية التخطيط للزيارة كما لو كانت ستحدث فى الموعد الذى حدده كوشنر. ورغم استمرار تيلرسون وماتيس فى التعبير عن شكوكهما من الزيارة، أعطى ترامب الضوء الأخضر لها، وحدد يومى 20 و21 مايو موعدا لها. وبرغم أن مسئولين فى البيت الأبيض من بينهم كوشنر كانوا يأملون أن تكون الزيارة «رسالة تحذير إستراتيجية إلى إيران»، إلا أن إدارة ترامب لم تستطع أن تضع سياسة خارجية متكاملة الأركان فى الشرق الأوسط. وتدريجيا باتت كل تحركاتها بمثابة خطوات متفرقة، متضاربة، لا يربط بينها رابط، بلا رؤية أو تصور استراتيجى للمنطقة بمجملها. وظلت شكاوى الجنرال ماتيس معلقة فى الهواء. ففى رأيه واصلت الإدارة وضع حلول مؤقتة لإشكاليات طارئة، دون أن تتمكن من صياغة استراتيجية شاملة.