هناك أعلام لا تُنسى رغم الرحيل؛ فأعمالهم مازالت باقية لتحيى داخلنا الكثير بل تمنحنا الفرصة مرات لا تنتهى فى اعادة اكتشاف تلك الشخصيات من جديد بين سطورها، ومن بين تلك الأعلام البارزة أمير القصة العربية يوسف إدريس الذى رحل عن عالمنا فى مثل هذه الأيام لكنه مازال باقيا بيننا. ولد يوسف إدريس على فى 19 مايو 1927 بمحافظة الشرقية. وكان والده كثير التنقل لعمله باستصلاح الأراضى لذا أرسل يوسف ليعيش مع جدته فى القرية، وربما كان لهذا تأثير كبير فى تجسد قضايا المرأة فى عيون يوسف فيما بعد. جذبت الكيمياء والعلوم يوسف حتى التحق بكلية الطب، وفى أثناء الدراسة اشترك بالعديد من المظاهرات ضد المستعمرين البريطانيين ونظام الملك فاروق ونشر فى مجلات ثورية حتى سجن وأبعد عن الدراسة عدة أشهر. وبين كل هذا كتب يوسف فى أثناء دراسته قصته القصيرة الأولى التى لاقت شهرة كبيرة بين زملائه. مارس يوسف بعد ذلك مهنة الطب بقصر العينى عام 1951، حتى أثرته الكتابة بشباك كلماتها ليترك عالم الطب ويعين محرراً بالجمهورية عام 1960 ثم كاتبا بجريدة الأهرام عام 1973. فى ذلك الوقت أصبحت الكتابة أكثر قربا منه لتلهمه المقدرة فى تقديم ألوانً مختلفة من الأدب تنوعت بين القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية. وقد خط بقلمه المبدع ثروة أدبية مكوّنة من عشرين مجموعة قصصية، وخمس روايات، وعشر مسرحيات، ومن أشهر أعماله القصصية الأولى «أرخص ليالي» التى أحدثت دويًا كبيرًا فى الوسط الأدبي، مما دعا عميد الأدب العربى طه حسين للقول: «أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت فى كتابه الأول «أرخص ليالي» على تعمق للحياة وفقا لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها وجعلته يشعر بأنه ولد نجما منذ اللحظة الأولى». وبالفعل كانت مجموعته الأولى هى الشرارة التى أضاءت الطريق لظهور الأديب الكبير يوسف إدريس التى توالت أعماله القصصية والروائية والمسرحية المميزة بعد ذلك مثل «جمهورية فرحات» و«البطل» و«العسكرى الأسود» و«البيضاء» و«اللحظة الحرجة» و«المهزلة الأرضية»، «رجال وثيران» و«الفرافير» وغيرها من الأعمال الإبداعية التى مازالت قيد اكتشاف السينما المصرية التى لم تكتشف إلى الآن سوى 11 فيلماً أهمها «لا وقت للحب» و«الحرام» و«النداهة» و«العيب» و«حادثة شرف» و«ورق سيلوفان». كان غزير الثقافة واسع الاطلاع بالشكل الذى يصعب معه تحديد مصادر ثقافته. حيث اطلع على الأدب العالمى وخاصة الروسى وقرأ لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز، كما كان له قراءاته فى الأدب الآسيوى لبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين. لقب يوسف إدريس «بأمير القصة العربية»؛ فالأقصوصة فى العالم العربى قبل سنوات الخمسينيات كانت لا تزال فى مراحلها وخطواتها الأولى، ثمّ جاء يوسف إدريس ونقلها من برجها العاجى إلى لغة التخاطب اليومي، ورسّخها ونقلها بعد ذلك من المحليّة إلى العالميّة. قال يوسف عن عشقه للقصة القصيرة: «اخترتها لأنى أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغّر بحراً فى قطرة، وأن أمرر جملاً من ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إننى كالحاوى الذى يملك حبلاً طوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذى يريد. القصة القصيرة طريقتى فى التفكير ووسيلتى لفهم نفسي، والإطار الذى أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذى وجدنى ولم أجده». كما حمل لقب «تشيخوف العرب» نسبة إلى الروائى الروسى أنطوان تشيخوف، لاقتراب كتاباته من الشخصية الريفية بكل تفاصيل حياتها ومعاناتها، خاصة المرأة الريفية التى نذر حياته للدّفاع عنها وللكتابة من أجلها. وبالرغم من ترك يوسف إدريس لعالم الطب إلا أنه قد داوى الكثير من مشاكل المجتمع المختلفة بعد أن ألقى الضوء عليها بشكل مباشر وصادق، وإلى الآن وحتى بعد وفاته فى أغسطس عام 1991 مازلنا نغوص بين مشاكل شخصياته النابعة من داخلنا نحنُ.