صندوق النقد الدولى أرغم مصر على إلغاء الدورة الزراعية فاختفى هدير السواقى وامتلأ فضاء الغيطان بطنين ماكينات الكليسكار ورائحة تعفن الجذور اختفاء الرى الجماعى بالساقية تسبب فى زراعة الحوض الواحد بالعديد من المحاصيل وأصناف الخضار فتكاثرت الآفات واجتاحت الزراعات الدكتور رشدى سعيد: أرض الدلتا ووادى النيل قطعة من أثمن وأغلى ما يمكن أن تمنحه الطبيعة لأحد.. فهما أقرب ما يكونان إلى الجنة... وهذه الأرض تتعرض اليوم للفساد والهلاك محمد البرغوثى لا أحد من المختصين أو من غير المختصين، يعرف متى توقفت سواقى الرى فى الوادى والدلتا عن الدوران؟... ولا أحد يعرف لماذا تحجر الهدير فجأة فى دواليب السواقى وأصابها الخرس مرة واحدة وإلى الأبد؟... ولا أحد يعرف كيف استيقظت غيطان مصر ذات صباح على السواقي، وقد خلت تماما من أى قيمة أو منفعة؟.. حتى مدارات السواقى التى كانت لقرون عديدة هى مضيفة الحقل وقاعة اجتماعات الفلاحين، ومكان استراحتهم من عناء العمل، تحولت فجأة إلى أماكن مهجورة وموحشة، تسكن الزواحف والقوارض آبارها المخيفة، وتعانى أشجارها التراثية العملاقة من الإهمال والأمراض التى نخرت جذوعها وأوراقها وثمارها. .................................... وخرس سواقى الرى وتوقفها عن الدوران، قضية من أخطر قضايا الإنتاج وجودة الحياة فى ريف مصر، وليست أبدا مجرد موضوع شاعرى يبحث فيه «مثقف زائف» عن حفنة مفردات جميلة مثل الهدير والخرير، أو يحن من خلاله مثقف آخر إلى ذكريات طفولته وشبابه تحت شجرة جميز عملاقة على مدار ساقية ورغم خطورة القضية فقد تجاوزتها كل الكتابات فى الصحف والمجلات والمواقع، وأهملتها دراسات المختصين فى المعاهد المتخصصة، حتى إن محرك البحث الشهير «جوجل» لن يروى عطش من يبحث فيه عن شيء يخص سواقى الرى فى غيطان مصر، وسوف تقف عشرات الموضوعات عن «سواقى الهدير» فى الفيوم، حائلا دون معرفة حقيقية بخطورة القضية. وقد أخذت «سواقى الفيوم» أهميتها وهى شديدة الأهمية فعلا من أنها واحدة من أقدم آلات الرى التى عرفتها مصر قبل نحو ألفى عام، ومن أنها دليل حاسم على «قصة حضارة تليدة علمت العالم فنون الزراعة قبل ما يزيد على ألفى عام من ظهور التكنولوجيا الحديثة»... ولهذا السبب وحده تعاملت كل الكتابات مع قضية السواقى على أنها سواقى الفيوم فقط، وعالجتها باعتبارها مقصدا أثريا تعرض لإهمال بشع حرم مصر من «مزار سياحى مدهش فى عبقريته الهندسية». باستثناء هذا الولع المتكرر بسواقى الفيوم، لم يتوقف أحد أبدا عند ظاهرة أخرى أكثر شمولا، تغطى كل غيطان مصر، هى ظاهرة التوقف شبه التام عن الرى باستخدام السواقي، وتحول مدارات السواقى إلى مقالب قمامة، وقيام أصحاب الحيازات المجاورة للمدارات باقتطاع أجزاء منها وضمها لأراضيهم، ولجوئهم إلى ماكينات «الكليسكار» فى رى أراضيهم، واستغناء كل واحد منهم عن الآخرين، يزرع ما يريد دون تنسيق مع جيرانه، ويروى وقتما يريد دون اتفاق مع أحد.. وتلك أمور ترتبت عليها كوارث إنتاجية وبيئية وصحية وأخلاقية كانت سببا رئيسيا فى انهيار البناء الثقافى والاجتماعى والأخلاقى للريف المصري. والذين عاشوا فى الريف المصرى خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، وخصوصا الذين ينحدرون من عائلات ريفية زراعية، يذكرون جيدا، كيف كانت السواقي، ومدارات السواقي، هى عصب الإنتاج والمعرفة وتراكم الخبرات والتواصل الإنسانى الخلاق، فى عموم الريف، والمختصون بالذات فى قضايا الزراعة والتربة والبيئة يعرفون جيدا أن السواقى هى أعظم ألة رى ابتكرتها الحضارة الزراعية المصرية، وكانت أحد أهم أسباب الحفاظ على خصوبة التربة لآلاف السنين، وعلى تجميع الحيازات الصغيرة فى حوض واحد تتم زراعته بأصناف موحدة تخضع لدورة زراعية عبقرية، يتم ريها ورشها ومقاومة آفاتها وفقا لنظام جماعى صارم لا يجرؤ أحد على مخالفته. كانت الساقية تقع فى وسط مساحة دائرية من الحوض الزراعى مقتطعة من حيازات الأراضى المجاورة لها، وبمجرد إقامتها تتحول مع المدار إلى ملكية جماعية، يستفيد الجميع بمائها، ويستظل الجميع بأشجارها الفارعة »التوت والجميز والكافور والجزورين« ويأكل الجميع من ثمارها الشهية.. ويقضى فيها الفلاحون كل أوقات الراحة بين نوبات العمل، ويتناقلون عبرها خبرات الزرع والعزيق والحرث والرى والرش والحصاد. ومع توقف السواقى عن الدوران، ولجوء الفلاحين فى كل قرى مصر إلى ماكينة الكليسكار الشيطانية، لم يعد هناك أحد فى حاجة إلى أحد، فكل فلاح يملك آلة رى تخصه، وب «10 لتر سولار» يستطيع أن يروى زرعه فى أى وقت، وبأى كميات، وكانت النتيجة الكارثية أن الحوض الزراعى الواحد أصبح يضم العديد من أصناف الخضراوات والمحاصيل فى نفس العروة، وبعد أن كان لكل صنف آفة محددة يعرفها الفلاحون ويستعدون لمقاومتها، انتقلت آفات الطماطم إلى الأرز، وسرحت آفات البطاطس فى القمح، وتأقلمت آفات أوراق الكرنب مع أوراق البرسيم والفول والذرة... إلخ... وأصبح الفلاح مطالبا بأن يستخدم العديد من المبيدات لتخليص زرعته الوحيدة من جحافل الآفات التى غزت أرضه من المساحات المجاورة له. ولعل الذين مازالو على صلة بالريف المصري، قد لاحظوا جيدا، هذه العلاقة الطردية المخيفة، بين توقف سواقى الرى واختفاء مدارات السواقي، وبين هذا الانتشار الفاحش لمحلات بيع وتجارة المبيدات الزراعية فى كل قرى مصر، وارتفاع تكلفة رش المبيدات ومقاومة الآفات إلى عشرات أضعاف تكلفتها القديمة، وارتفاع متبقيات المبيدات فى كل الخضراوات والخضار والفاكهة والحبوب وألبان ولحوم الحيوانات التى تتغذى على هذه المحاصيل هل نقول دون أدنى تحوط إن انتشار أمراض الفشل الكلوى والكبد والسرطانات والتسمم العصبى وأمراض العقم والضعف الجنسي، قد تزامن مع تراجع استخدام السواقى فى الري، ثم استفحل مع توقفها شبه التام عن الدوران؟!. واللافت إلى حد الحسرة، أن تراجع خصوبة أراضى الوادى والدلتا، التى تكونت عبر ملايين السنين، قد تزامنت واستفحلت هى الأخرى مع تراجع ثم توقف استخدام السواقى فى الري، ومع كثافة الاعتماد على الماكينات الشيطانية فى نقل المياه من الترع والمساقى إلى الأراضى مباشرة... وهو الأمر الذى رفع نسبة الماء الجوفى تحت التربة، وأصابها بما يسميه المختصون ب «تطبيل التربة» فى تشبيه بليغ ومؤسف بجلدة الطبلة المشدودة المصمتة، التى لا تسمح بتهوية التربة وتصيبها بالاختناق والتعفن، وتقضى على فطرياتها المفيدة التى تلعب دورا حاسما فى نقل العناصر الغذائية إلى الزرع. إن تراجع خصوبة أراضى الدلتا والوادى لا يمكن إدراك فواجعه إلا باستعادة ما كتبه واحد من أعظم علماء التربة والجولوجيا والطاقة والمياه فى العالم كله.. هو الدكتور رشدى سعيد رحمه الله الذى توقف فى كتابه «مصر المستقبل» أمام ما يحدث من تدهور شديد لنوعية الحياة وخصوبة التربة فى الدلتا والوادى بقوله: »إن أرض الدلتا ووادى النيل هما قطعة من أثمن وأغلى ما يمكن أن يمنحه الطبيعة لأحد، فهما أقرب ما يكونان إلى الجنة: جو معتدل وخصوبة وافرة، ووضع جغرافى قل أن يجود الزمان بمثله، وما رأيت فى حياتى أرضا مثلهما تنتج من الفاكهة ما له نكهة خاصة، ومن الحبوب والخضراوات ماله مذاق طيب، ومن الزهور ما تفوح رائحته بياسمينها وفلها، هذه الأرض الثمينة التى وهبها الله لنا، تتعرض اليوم وتحت ضغط تزايد السكان والازدحام وما يصحبهما من تكثيف الاستخدام، إلى الفساد والهلاك والفناء... وليس فيما أقول أية مبالغة كتاب الهلال عدد مارس 2004ص 44 و45. هذه القطعة من الجنة كما وصفها رشدى سعيد تحولت الآن وبعد عقود من الإهمال الإجرامى إلى جحيم لا يطاق، يزحم فضاءها طنين آلاف ماكينات «الكليسكار» بدلا من هدير السواقى وخرير المياه النظيفة، وزقزقات وهديل أسراب الطيور والعصافير، وتزكم الأنوف رائحة العطن فى تربتها المريضة بانعدام المسامية وارتفاع منسوب المياه الجوفية الآمن، وامتلاء المساقى والقنوات بأكوام القمامة المتفسخة والمتحللة تحت وطأة الشمس الحارقة. ومن يتجول الآن فى غيطان مصر بالوداى ودلتا النيل، ستكتمل حسرته، وهو يشاهد هذا الاغتراب العميق لآحاد من الناس، يتناثرون هنا وهناك، وكل منهم منكب على ماكينته، وعلى زرعه الذى يختلف عن زرع جاره، وعلى مقربة منهم ينتصب حطام ساقية قديمة تعرى مدارها من أشجار التوت والجميز والجزورين والكافور.... وسوف يقطع عشرات الأفدنة، وينتقل هنا وهناك فوق جسور متهالكة بحثا عن شجرة يستريح فى ظلها... ولكنه لن يعثر على شيء: لا إنسان يتواصل معه... ولا مساحة ظل يحتمى بها من سحابة الروائح المحملة بالمبيدات والعفن التى تنعقد فوقه... ولكن إذا قدر لهذا المتجول أن يجالس عددا من الفلاحين فى بيوتهم أو على مقهى القرية، وسألهم عن أحوال الزرع والضرع، فسوف يذهله حجم الهلاك الذى لحق بهم بسبب تراجع خصوبة التربة وانخفاض الإنتاجية عاما بعد عام، وتفشى الأمراض الوبائية فى الماشية، وانتشار كل الأمراض المزمنة والمستعصية بين سكان القرية. هل سبق لأحد ممن أدمنوا استخدام التعبير المتهافت شديد الادعاء عن التفكير خارج الصندوق أن توقف أمام هذا الارتباط الشرطى بين التوقف شبه التام عن استخدام السواقى فى الري، وانهيار جودة الحياة فى الريف والمدن وتفشى الأمراض وتراجع خصوبة التربة وضعف الإنتاجية؟!.. المؤكد أن هناك كثيرين لاحظوا هذا الارتباط الكارثي، وأن هناك كثيرين انتبهوا إلى ضرورة العودة إلى «الدورة الزراعية المصرية» التى كانت تلزم كل محافظة، وكل قرية، وكل حوض زراعى بزراعة أصناف محددة، تروى فى مواعيد محددة، وبكميات مياه محددة، ولكننى لم أصادف حتى الآن من انتبه إلى أن انعدام استخدام السواقى فى الرى تزامن أيضا مع إلغاء الدورة الزراعية فى منتصف ثمانينات القرن العشرين، انصياعا لاملاءات صندوق النقد الدولي، ولا يخالجنى أدنى شك الآن، فى أن إعادة صيانة هذه السواقى وتطهير آبارها، وتجديد أشجارها الرائعة كثيفة الظل وعذبة الثمار هو الشرط الأول لنجاح عودة الدورة الزراعية... والشرط الأساسى لتخليص جنة الوادى ودلتا النيل من أمراض اختناق التربة وتراجع الخصوبة. وأخيرا... لقد كان قدر مصر أن تبدأ مشروعات نهضتها من «الري»... وفى كتابه «تاريخ تطور الرى فى مصر» يتوقف الدكتور عبد العظيم محمد سعودى عند حالة الفخر التى كانت تنتاب محمد على باشا وهو يتباهى بأنه «حتى سنة 1830 أدخل 3800ساقية فى أراضيه الخاصة، وفى عهد الخديوى إسماعيل بلغ عدد السواقى أكثر من 30ألف ساقية، وعندما احتل الانجليز مصر عام 1882 زاد احتياجهم إلى السواقي، حتى إنه فى عام 1900 بلغ عدد السواقى التى أقاموها لرى القطن 40ألف ساقية.. وفى السنة نفسها قاموا بتجديد الكثير منها حتى تكفى الواحدة لرى من 5 إلى 10 أفدنة فى اليوم» سلسلة تاريخ المصريين العدد 196 ص340 و341. والحال كذلك... هل ينتبه المسئولون عن صياغة حاضر ومستقبل مصر إلى أن إعادة إعمار سواقى الرى فى الوادى والدلتا وصيانتها وتعميم الرى بها، قد يخلصنا من تراجع خصوبة الأرض وخصوبة البشر وضعف الانتاج وانهيار الصحة العامة وتدهور نوعية الحياة فى كل شبر من أرض هذا البلد؟!... وهل يدرك دعاة «التفكير خارج الصندوق»... أن العودة لصندوق الحياة الطبيعية أجدى آلاف المرات من البحث عن قطة سوداء فى حجرة مظلمة؟!.