العلماء والمفكرون ورجال السياسة على مستوى العالم في حيرة من أمرهم ، لم يجدوا تعريفا مانعا جامعاً لكلمة «الإرهاب» أو من هو الإرهابي؟ ومن ثم ليس أصدق من كلمة «اللغز» تطلق على هذه الظاهرة التي تروع العالم كافة. ولست أدري من هذا الذي أشاع في العالم أن الإرهاب صناعة شرقية أو قل عربية أو قل نتاج الثقافة الإسلامية، لعل الحادث المروع في 11 سبتمبر 2001 الذي راح ضحيته ثلاثة آلاف إنسان من مختلف الجنسيات والأديان، ثبت هذه الفكرة لأن الذين عبثوا بأرواح البشر كانوا من بلاد عربية، بينما تؤكد مسيرة الإرهاب غير ذلك وهذه بعض الأدلة الواضحة على أن الإرهاب ليس له دين وإن تمسح بالدين والتحف به وليس له جنسية محددة أو خرج من رحم أمة واحدة ففي 25 مارس 1995 فجر ياباني أنبوبة بوتاجاز في مترو طوكيو فقتل اثني عشر إنسانا وجرح خمسة آلاف ، واتضح أن المجرم الأثيم عضو في جماعة متطرفة إرهابية ظهرت سنة 1980 وتدعى جماعة ( اوم) وفي مدينة سانت ياجو سنة 1997 خرجت بدعة تقول إن السعادة هي في الخروج من هذه الدنيا بالانتحار ، وبالفعل انتحر من اتباعها تسعة وثلاثون عضوا من جماعة (بوابة السماء) وفي 3 نوفمبر 2006 في مدينة شيكاغو انتحر شاب موسيقار في ساحة المدينة معلناً أن انتحاره هو رفض للحرب على العراق، وفي 28 يناير 1993 في تكساس قتلت جماعة تسمى داوديون ثمانية أشخاص وفي العام ذاته 19 أبريل راح ضحية حريق متعمد ثمانون إنساناً من بينهم 17 طفلاً وقد تبدو هذه الأحداث متباعدة متفرقة ولكن يربطها كافة خيط واحد هو الفكر المتطرف. طوى القرن العشرون أوراقه بما فيها من خير وما فيها من شرور اشتعلت الحربان العالميتان وراح ضحيتهما أكثر من ثمانين مليونا من البشر ، وبدا التاريخ صفحات جديدة بعد أن رحلت العصور الوسطى عصور الحرب والدين كما أطلق عليها وسقط الاستعمار، وتوهج أمل جديد عند الشعوب بعد تدفق المكتشفات العلمية وحضارة الرفاهية والترف، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ( 1945 ) بدأ العالم يحلم بعالم مزدهر واعد، وتقاربت الشعوب واتسع نطاق الحوار بينها وإن اشتعلت نيران حروب إقليمية أو انقلابات على السلطة غير أنه -والحمد لله- لم تقم حرب عالمية ثالثة بالمفهوم القديم، ولن تخلو الدنيا يوما من صراع أو نزاع وإن تحول الأمر إلى قضايا سياسية واقتصادية، وهل أقول إن العالم فوجئ بعد هذا كله وبعد فشل وسقوط النازية وانحسار المد الشيوعي هل أقول إن بروز لغز الإرهاب «داعش» فاجأ العالم ولست في سبيل تحليل أسباب انفجار حرب داعش وإنما أشير فقط إلى أحد أهم أسباب فشله هو أن داعش لم تقدم للعالم أو للأوطان العربية والإسلامية مشروع نهضة وتنمية وترقية بل اندفع في وحشية وعنف تداعب حلم الخلافة عند البسطاء ولم تكن الأمور مهيأة لذلك فهذا موضوع حوله خلاف واختلاف وليس من ثوابت الدين، لم يتخلص العالم بعد من آثار داعش بل مازال الخوف والتربص أمام العنف الذي لم يتوقف في مختلف بلدان العالم، ترى ما هو هذا اللغز المحير الذي أحدث ثقبا في حضارة العصر؟! دعك من القول بأن الإرهاب ، فكر متطرف، سيطر على جماعات من أصحاب الأمراض النفسية ومن الذين أصابهم الفشل والإحباط، ولم ينالوا تربية قويمة سليمة أو ثقافة إنسانية شاملة وأنهم سقطوا في فراغ لم يجدوا إلا الفكر المتطرف ملتحفاً بالسياسة حيناً، وبالدين حيناً آخر، يحاولون التخلص من الإحساس بالتفاهة باحثين عن قضية يرونها من الأمور المقدسة، فالإرهابيون من المتطرفين ليسوا مجانين أو فاشلين اجتماعياً ولا هم من الأغبياء بل هم أسرى لفكرة أو هاجس سيطر عليهم واعتقدوا أنهم أصحاب قضية . ولكي نحاول فهم هذا اللغز ينبغي أن نبحث عن إجابة لثلاثة أسئلة : كيف نفرق بين إنسان سوي وآخر متطرف ، ما هي الملامح النفسية والسلوكية لهذا أو لذاك؟ وكيف يتدرج الإنسان من حال سوي طبيعي إلى حال متطرف ثم إلى إرهابي، فالإنسان لا يولد مجرماً أو قديساً بل ينسج كيانه الديني والثقافي والفكري مع نموه وتطور خبراته ووفق ما يناله من علم وتجربة. والسؤال الثالث لعله الأصعب : كيف يسجن العقل في فكرة واحدة، تسيطر على كيانه ووجدانه وإرادته، يرفض الإنسان الآخر المختلف عنه، والمجتمع الذي يعيش تهون عليه الحياة والمستقبل ويهيمن عليه هاجس يفجر فيه طاقة الانتقام بعد أن تشبع بالكراهية للإنسان، وأخطر ما يمكن أن يصيب فكره أن يختلط هذا الهاجس بتفسيرات دينية خاطئة تلقاها وسرت في كيانه. إننا ندرك أن الإنسان لا يزال ذلك المجهول وعلم النفس لم تأخذه كثير من المجتمعات والجامعات مأخذ الجد ، لقد سقطت نظريات الإلحاد والمادية لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده وحلت في السنوات الأخيرة ما يمكن أن نطلق عليها ظاهرة اللامبالاة أو ظاهرة وأنا مالي، إن في أعماق الإنسان عطشاً روحياً وجوعاً إلى الإيمان ليس بأقل من جوعه وعطشه للمعرفة والثقافة، ومن أعجب الأمور أن غالبية الذين قاموا بأعمال إرهابية مدمرة عاشوا حضارة العصر بكل متعها لم يكونوا متصوفين أو زهاداً وإحدى سمات هذا اللغز كيف استطاعوا أن يوحدوا تعصبهم وتطرفهم ورفضهم مظاهر هذه الحضارة مع شراهتهم في الاستمتاع بكل أطايبها ناهيك عن امتلاكهم المال والحرية أزعم أنهم حولوا الدين إلى أيديولوجية لتحقيق أهدافهم أو أهداف من يحركهم، وأغلب الظن أن على الشعوب كافة أن تبدأ في إعداد أجيال جديدة يكون انتماؤها للإنسانية قبل كل شيء، يحترم الإنسان والحياة فالقيم الروحية السامقة ليست في حاجة إلى مجرمين قتلة ليبشروا بها بل في حاجة إلى عقول متفتحة ونفوس طاهرة وقلوب عامرة بالحب والأمل والثقة في مستقبل إنسانيتنا .لغز الإرهاب في حاجة إلى مزيد من التحليل والدراسة. لمزيد من مقالات ◀ الأنبا د. يوحنا قلته