إحدي الثقافات الهامة التي تبرز الحاجة الماسة إليها في ظل عملية الحراك السياسي و الاجتماعي الذي تشهده مصر حاليا- والذي تتردد ضمن فعالياتها مطالب عدة بضرورة التغيير- هي ثقافة الديمقراطية. حيث لايمكن المطالبة بالديمقراطية, واعتبار أنها الحل السحري لكل مشاكلنا المستعصية والتي تنوء عن الحصر, ونحن نسمع ليل نهار أن الديمقراطية هي أن تقول رأيك, وتستمع إلي الرأي الآخر, هكذا وببساطة لاتخلو من الاجتزاء المخل, تم اختصار العملية الشاملة والمتكاملة التي تنتج نظاما ديمقراطيا وحياة ديمقراطية سليمة ومعافاة,إلي عملية شكلية أقل بكثير من الطموح المجتمعي الذي ينشد تغييرا حقيقيا يدفع به إلي مصاف الأمم الحية, وإلي مكانة تليق بمصر و بالمصريين, ولنا في البداية كلمة عن التغيير,ثم نتناول بعدها بعض معالم الثقافة الديمقراطية و الدور الإيجابي للمعارضة. وبداية نجد أن قيمة التغيير تجد قبولا واسعا كقيمة مطلوبة لذاتها, وكسنة طبيعية من سنن الحياة التي لاتهدأ ولاتسير علي وتيرة واحدة, فدوام الحال من المحال, ولولا تعاقب الليل والنهار, والحزن والفرح, والصحة و المرض, لما شعر الإنسان بقيمة الحياة, ولما كان للجهد والإرادة الإنسانية دورا في تحسين الإنسان لحياته, وفي قدرة المجتمع ككل مكون من مجموع أفراده علي الانتقال من حال إلي حال. ناحية أخري نشير إليها تلك المتعلقة بأن المطالبة بالتغيير لاتعني بالتبعية ذم الواقع الموجود أو عدم الاعتراف بأي إنجاز له, أو سلبه أي قيمة إيجابية, فقد جرت العادة علي ذكر المساويء فقط انطلاقا من المقولة الدارجة بأنه' لاشكر علي واجب', لذا وجب التنويه إزالة للحساسية التي قد يستشعرها البعض من حديث التغيير, أو من ثقافة الديمقراطية. وأحد المعالم الأساسية لحديث التغيير ولثقافة الديمقراطية هو الانتقال السلمي للسلطة, وقدرة النظام الديمقراطي علي استيعاب القوي الجديدة دون عنف, وهذا لايتحقق من دون وجود آلية لتداول السلطة يكفلها الدستور وينظمها القانون, وفي ظل الثقافة الديمقراطية يعتبر طلب السلطة أو السعي للوصول إلي السلطة أمرا مشروعا طالما أنه يمارس طبقا للقواعد والإجراءات الديمقراطية, بل إنه أحد الخصائص المميزة للأحزاب, فكل حزب يعرض برنامجه, ويسوق له بالطرق المشروعة, ويحتكم للشعب في صناديق الاقتراع, ويتولي الدور الذي تفرزه نتيجة الانتخابات, إما أن يكون في الحكومة, أو يكون في المعارضة وكلاهما سلطة, وله دور في الحياة السياسية. والمواطن هو الحكم في هذه العملية, هو الناخب صاحب الصوت الانتخابي, الذي يملك الثواب والعقاب, يكافيء المصيب فيعطيه صوته, ويعاقب المخطيء فلايمنحه صوته, ولذلك يحسب لصوت الناخب ألف حساب, وتكون مصلحة المواطن صاحب الصوت الانتخابي لها الأولوية لأن تجاهلها أو سن قوانين تتعارض معها سوف يلقي عقابه عند صناديق الاقتراع. هكذا نجد أن احترام المواطن سمة أساسية من سمات الثقافة الديمقراطية التي تتميز بالإضافة لما سبق بالقدرة علي استيعاب منطق التغيير, وبوضع آلية تكفل التداول السلمي للسلطة, وهذه الثقافة لاتجد مناخا ملائما إلا في مجتمع يتميز بالحيوية التي يعبر عنها حراك اجتماعي وسياسي نشط, أما المجتمعات الراكدة التي تعيش واقعا كسيحا لاحياة فيه ولا إبداع فعسير عليها أن تنمي ثقافة تقبل بالديمقراطية بخصائصها المعروفة من تداول سلمي للسلطة, و رقابة عليها, واستيعاب سلمي للقوي الجديدة في المجتمع, والاحتكام للشعب في انتخابات حرة ونزيهة. في مثل هذه الثقافة تنمو المعارضة الإيجابية التي تقوم بدور لاغني عنه للمجتمع, فهي بمثابة الجهاز المناعي في الجسم المعافي السليم الذي يتولي مقاومة كل ما يعترض الجسم من مؤثرات تضر به. المعارضة بهذا المعني لها دور إيجابي ومطلوب للحفاظ علي سلامة المجتمع والدولة, و المجتمع الذي لايتمتع بهذا النوع من المعارضة لايتمتع بالحماية التي يكفلها الجهاز المناعي في الجسم السليم, المعارضة الإيجابية هي صوت الضمير لمن بيده السلطه, ولمن هو خارجها, بمعني أن الثقافة الديمقراطية تتضمن قاعدة معروفة بأنها' ثقافة الفعل الذاتي'(doitbyyourself) ويكفي لفهم هذه القاعدة الإشارة إلي التقليد المعروف في الديمقراطيات العريقة, وهو أن المسئول يبادر بالاستقالة حين يقع خطأ في دائرة مسئوليته, حتي وإن لم يكن هو بصفته الشخصية مسئولا عنه ولكنها المسئولية الأخلاقية التي تصل بصاحبها إلي التخلي الطوعي عن السلطة. وهذا التخلي الطوعي عن السلطة لايأتي فقط من موقع تحمل المسئولية عند وقوع خطأ أو أخطاء ما, ولكنه قد يأتي أيضا من شخص حقق إنجازات و نجاحات, ولكنه يشعر بأنه قدم ماعنده ولم يعد لديه مايمكن أن يضيفه إلي رصيده المليء بالإنجازات, أو أنه يريد أن يستريح بعد رحلة عمر مليئة بالعطاء فيتخلي طوعيا عن السلطة, و أمامنا أمثلة مثل مهاتير محمد رائد الإصلاح والطفرة الاقتصادية و رئيس وزراء ماليزيا الأسبق, و هذا السلوك الطوعي هو واحد من المعالم الهامة للثقافة الديمقراطية. ومثل هذا السلوك لا يأتي مصادفة أو بمبادرة فردية من قبل من يمسك بزمام السلطة أيا كان موقعه فيها, ولكنه سلوك معبر عن قيمة أساسية ضمن الثقافة الديمقراطية, و هي المساءلة و المساواة أمام القانون, سواء لمن بيده السلطة, أو لمن هو خارجها, و لذلك تصبح السلطة و الحكم مغرما لامغنما, وواجبا ومسئولية, لا مزية أو امتياز. وهناك قيمة أخري أساسية ضمن الثقافة الديمقراطية و هي قيمة الحرية, وهذه القيمة تتضمن عديدا من الحريات السياسية, و الاقتصادية, والاجتماعية. و سوف نتناول منها: حرية الرأي والتعبير كمطلب أساسي لثقافة الديمقراطية, و إحقاقا للحق فإن القدر الحالي المسموح به من تلك الحرية هو أكبر بكثير من فترات سابقة, إلا أن هذه الديمقراطية' الصوتية' أصبحت لاتكفي, لقد استوعب المجتمع هذا القدر من الحرية وأصبح, في حاجة إلي المزيد, فلا يكفي أن تقول رأيك وتستمع إلي الرأي الآخر, وماذا يفيد أن تقول وتستمع ويبقي الحال علي ماهو عليه, لقد قال عنا أعداؤنا إننا ظاهرة صوتية إن قلنا ظنا أننا فعلنا, وهذا الشكل من الديمقراطية الصوتية التي قالوا عنها إنها ديمقراطية' الصراخ و العويل' هو الذي أثمر مانعيشه من حياة سياسية مليئة بالكلام وكشف العورات ومظاهر الفساد, والحديث عنها والوقوف عند هذا الحد. إن مصر العظيمة وشعبها المكافح صاحب أعرق حضارة في التاريخ لهو جدير بأن ينعم بحياة ديمقراطية سليمة ومعافاة, ديمقراطية كاملة غير منقوصة,بدون أي اجتزاء يجعلها شكلا بلا مضمون, وكيانا بلا روح,وبلا وعي, وبلا ثقافة. فالديمقراطية هي كل لايقبل الانتقاص أو الاختزال, وهي عملية متكاملة لاتستغني بحال من الأحوال عن المضمون والوعي والروح, وعن الثقافة الديمقراطية.