الآلة اللغوية والنظرية والمفاهيمية والإصطلاحية التى تمتلكها المدارس الفلسفية والفكرية والسوسيولوجية والسياسية وفى العلاقات الدولية تبدو غير قادرة على منحنا بعضا، من دقة الوصف وتحليل ما يحدث من وقائع وظواهر وأزمات اجتماعية وسياسية وتقنية ولغوية، أحد مظاهر عجزنا اللغوى ومحاولة تفسير ما يحدث، تتمثل فى لجوء بعض الفلاسفة والخبراء والباحثين إلى موروث إصطلاحى غادرنا مع سياقاته التاريخية لوصف بعض الأزمات العالمية، ومن أبرزها إطلاق اصطلاح حرب باردة جديدة على ما يحدث من توترات فى العلاقة بين الولاياتالمتحدة وروسيا، أو الأزمة الدبلوماسية بين بريطانيا وروسيا على خلفية تسميم جاسوس روسى مزدوج وابنته وطرد عديد من الدبلوماسيين على نحو متبادل بين الدولتين ومع بريطانياأمريكا ودول أخرى. هذا الاصطلاح يبدو مثيرا وجاذبا، ولكنه غير دقيق لأن الحرب الباردة تمت فى سياقات تاريخية ودولية مختلفة، وانقسامات أيديولوجية حادة ومساحات واسعة من الصراع والتوتر الإيديولوجى بين الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية، وبين الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية والمعسكر الرأسمالى العالمى، عالم الحرب الباردة توارى عقب سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفيتى. خذ أيضا الأزمة بين الولاياتالمتحدة والصين حول فرض رسوم جمركية متبادلة على بعض الصادرات من المنتجات والسلع المختلفة، هل هى حرب اقتصادية؟ هل تتوافق مع مبدأ حرية التجارة العالمية والاتفاقيات الدولية فى هذا الشأن؟ هل هى عودة للنزعة الحمائية فى عالم معولم وما بعده؟ وقائع الأزمات السابقة، ومسمياتها التقليدية تكشف عن، «إن ما يحدث هو على درجة من التعقيد أكبر من أن نفسره بتلك الطريقة البسيطة المريحة التى نتخيل من فرط سذاجتنا أنها طريقة كافية.» على نحو ما يذهب زيجمونت باومان. هل نحن أمام لعبة شد أطراف أم عالم من السيولة والاضطراب وعدم اليقين؟ أم إننا إزاء عالم متصدع ومفتت أو مضطرب؟ كيف نصف هذا العالم وأزماته؟ هل نحن إزاء عالم ما بعدى، ما بعد... بعد الحداثة، ما بعد العولمة؟ أم نحن إزاء عالم الثورة التقنية الرابعة؟ أم إن هذا الوصف لا يعبر سوى عن التحول الهائل والسريع فى المجالات التقنية الرقمية وانعكاساتها على الإنسانى والطبيعى ومن ثم على مألوف الحياة الإنسانية وتغيراتها؟ يبدو أننا إزاء عالم متداخل فى إطار عملياته التكوينية بين بعض من الماقبل والمابعد معًا فى تواشج وصراع وتناقض وتوافق فى بعض الأحيان، ومن ثم نستطيع فهم هذا التجاور بين التناقضات، والتعايش فيما بينهم فى إطار جدلى. عالم من المخاضات الكونية وما بعدها، هو الذى يعطى بعضا، من التفسير للتناقض بين حرية التجارة العولمية، وبين النزعة الحمائية التى تعبر عن المخاوف من الانفتاح على عالم بلا حدود فى الأسواق العولمية فى عديد المجالات، عالم هادر بالتغير السريع الذى تقوده الثورة الرقمية وتغييراتها المتلاحقة فى العمق للتكوين الإنسانى الطبيعى ومألوف أنماط حياته وتراثاته الإنسانية، ومواريث ذاكرته الجمعية، وسلوكه الاجتماعى ودوافعه ومشاعره وحواسه. تحولات كيفية تمس مفهوم العمل والزمن والمكان. العمل الرقمى أخذ فى الحلول كبديل عن أنماط من العمل الذهنى واليدوى والتقنى التى ألفناها، وهو ما تجلى فى استغناء عديد من الشركات الكبرى عن عمالة أصبحت تقليدية فى فروعها المخصصة لبيع الخدمات التى انتقلت إلى البيع والشراء بواسطة مواقع على الواقع الافتراضى. من ناحية أخرى دخول الإنسان الآلى «الروبوت»- إلى مجال العناية بالمرضى وكبار السن فى منازلهم باليابان، التطورات النوعية تشمل الثورة الجينية، وعلاج بعض الأمراض الخطيرة. هذا الانتقال من الإنسان الطبيعى إلى الإنسان الرقمى بكل تداعياته يثير عديدا من المخاوف فى التكوين الإنسانى السوسيو- نفسى، والاجتماعى من تزايد البطالة، وتضاؤل الفرص فى إيجاد العمل لعشرات الملايين، والبحث عن أشكال للتكيف وإعادة التأهيل لمواكبة تطورات وتطبيقات الثورة الرقمية وتحولاتها النوعية. تناقضات بين نمط السياسة والسياسيين لأجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، إزاء أجيال جديدة تتشكل حول الثورة الرقمية وأخيلة سياسية جديدة، تدور حول الصراع حول الذكاء الصناعى، والاقتصادات الرقمية وعمليات التكيف معها، وفى ذات الوقت التدافع بين أنماط تفكير سياسى متصادمة، بين العقل السياسى الساعى لإعادة بعض أنماط القومية ومفهوم السيادة والحمائية، وبين احترام مبدأ حرية التجارة والأسواق الكونية واتفاقياتها، بين السياسة الرقمية وبين الشعبوية، فى هذا السياق نشهد صعود الشعبوية، وما بعد الحقيقة، وتآكل بعض الأنماط التاريخية من الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية والوسطية فى فرنسا على سبيل المثال، وصعود اليمين المتطرف، يلاحظ أيضا محاولة التكيف بين بعض قادة العالم الأكثر تطوراً وبين الرقمنة من خلال خطاب التغريدات لمخاطبة جمهورهم ومواطنيهم والعالم من خلاله، وهو ما يظهر من خطاب التغريدات الحاملة لجنوح ترامب وتوتره وتناقضاته ونقص خبراته السياسية وشعبويته بديلا عن الخطاب الاستراتيجي. تناقضات ومخاوف إزاء عالم يبدو متصدعا، ومفتتا وخارج السيطرة على نحو ما كان سائدا فى أثناء الحرب الباردة وما بعدها، وفى مرحلة الإمبراطورية الأمريكية. عالم السياسى الشعبوى رجل الأعمال، وميسر الصفقات الاقتصادية والمالية الضخمة مقابل دعم أنظمة شمولية وسلطوية، بينما العالم يشهد صعود القوة الذكية، والذكاء الصناعى، والاستنساخ، وتجاوز الثورة الرقمية والجينية لأى قيود رسمية وقانونية ودينية، عالم متصدع ومتنازع، حيث ستتلاشى فى المستقبل 40% من الوظائف كنتاج للذكاء الصناعى، والفجوات المتزايدة فى التوزيع غير العادل للدخول فى ظل مخاطر جيو- سياسية من الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، سيكون أكثر هشاشة وفق كلاوس شواب. من ثم نحن إزاء عالم المابعديات الأكثر هشاشة وتفتتا، والأكثر تطوراً وتغييراً فى التكوين والطبيعة الإنسانية، إنها لحظة مخاضات كبرى. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبدالفتاح