تعيش بريطانيا على الأصول والتقاليد. وقواعد أصول الضيافة ال12 الجديدة، بحسب مجلة «تاتلر»، مطبوعة الطبقة النافذة فى بريطانيا ودليل إتيكيت الارستقراطية، لإستضافة عشاء ناجح تتضمن بعض النصائح القديمة جنباً إلى جنب مع نصائح جديدة ومن بينها: لا تدعو أكثر من ثمانية أشخاص على العشاء، ولا تخبرهم مسبقاً بقائمة كل المدعوين،لا تطلب من الضيوف خلع أحذيتهم على الباب مهما كانت سجادتك نظيفة، إمنع اصطحاب الأطفال، الطاولة المستطيلة أفضل لعشاء ناجح من طاولة مستديرة، لا تقلق كثيراً إذا كان بين المدعوين من هو «نباتي» قدم ما لديك من خضار وهذا يكفي، أعطى ضيوفك استراحة كل ساعة لمن يريد التدخين. لكن الأهم من كل ذلك لا تتحدث فى السياسة، وتحديداً لا تذكر البريكست . ووفقاً لهذه المعايير فقد خالفت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى أصول الضيافة خلال استضافتها أعضاء حكومتها لمدة يوم كامل فى المقر الريفى لرئيسة الوزراء الأسبوع الماضي. فقد «حبست» ماى وزراء حكومتها لمدة 8 ساعات فى محادثات مغلقة حتى يتوصلوا إلى خطوط عامة حول ملامح المرحلة الانتقالية للبريكست بين بريطانيا والإتحاد الاوروبي. وبعد المحادثات، كان العشاء. لم يكن البريكست الطبق الوحيد على المائدة، فقد كان هناك أيضاً حساء الذرة بالكريمة، ومقرمشات اللحم المقلي، ولحم مع البصل والجزر المهروس، وكعكة اليمون مع التوت. خيارات ربما أكثر من الخيارات المطروحة أمام بريطانيا فيما يتعلق بالبريكست. ف«دبلوماسية المائدة» إحدى وسائل ماى فى تخفيف الطعم المرير للخلافات حول البريكست. فقد سبق أن اجرت محادثات على العشاء مع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فى بروكسل قبل أشهر أعقبها إنفراج وجيز. كما التقت نهاية فبراير على غداء عمل مع رئيس مجلس أوروبا دونالد توسك فى «دواننج ستريت»، وذلك قبل كلمتها الجمعة التى حددت خلالها مكونات البريكست الأساسية ونكهته النهائية، حيث كررت تأكيدها أن الانفصال عن أوروبا سيكون كاملاً وأن حكومتها مصرة على الخروج من الاتحاد الجمركى والسوق الموحدة برغم أن هذا يترتب عليه تداعيات كثيرة فيما يتعلق بالاقتصاد البريطانى والحدود بين أيرلندا الشمالية (إحدى مكونات بريطانيا العظمى) وجمهورية إيرلندا (جزء من الاتحاد الأوروبي). وإذا كان طعم البريكست مريراً لدى الأوروبيين بالفعل، فإن البريكست ما زال بلا طعم أو رائحة لدى غالبية البريطانيين. فبعد 20 شهراً من تصويت 52 فى المائة من البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبى ما زال أعضاء الحكومة يتلمسون خطاهم حول ملامح الخروج وشكل العلاقات الجديدة. والأسابيع الثلاثة المقبلة ستكون حاسمة. فحكومة ماى تريد الخروج من اتحاد التعريفة الجمركية، الذى يلغى كل أشكال الجمارك بين دول الاتحاد، لأن هذا يعطيها حق إجراء مفاوضات تجارة حرة مع أى تكتل أو دولة فى العالم. لكنها تريد فى الوقت ذاته التمتع بكل مزايا عضوية الاتحاد الجمركى أى تبادل السلع بدون جمارك أو تكلفة اضافية. هذا التناقض الجوهرى حلته ماى بطريقة شبهها الدبلوماسيون فى بروكسل ب«طبقة سلطة». فالاستراتيجية التى أقرتها ماى خلال الاجتماع مع أعضاء حكومتها فى مقرها الريفى تقوم على «خلط» كل خيارات بريطانيا فى سلة واحدة. فهى تريد «تطابقاً» بين بريطانيا والإتحاد الأوروبى فى قطاعات معينة، على رأسها صناعة السيارات، وتريد «موائمة» بين بريطانيا والإتحاد فى قطاعات أخرى، على رأسها الخدمات المالية، وتريد «افتراقاً» بين بريطانيا و الإتحاد فى قطاعات ثالثة، من بينها قطاع الثروة السمكية والزراعة. إصرار ماى على الخروج من إتحاد التعريفة الجمركية مع أوروبا من أجل الاحتفاظ بخيار إجراء اتفاقيات تجارية مع دول أخرى فى العالم، دعا المسؤول السابق فى وزارة التجارة البريطانية السير مارتن دونيلى إلى وصف الحكومة بالشخص الذى يفضل «كيس من رقائق البطاطس على وجبة من ثلاثة أطباق» فى مطعم راقى. أما دونالد توسك فقد وصف الخطط البريطانية ب»محض أوهام... توضح أن فلسفة الكعكة ما زالت حية ترزق»،فى إشارة منه إلى نهج الحكومة البريطانية القائم على»الاحتفاظ بالكعكة وأكلها».أى الاستفادة من مزايا عضوية الإتحاد الجمركى بدون أن تكون بريطانيا عضواً. وعدم التقيد بقواعد الاتحاد وشروطه وقوانينه، إلا عندما تتطابق مع المصالح البريطانية. رد الفعل الأوروبى الفورى أفسد طبخة ماى، لكن ما أحرق الطبخة كلياً هو فتح حزب العمال المعارض بزعامة جيرمى كوربن، الباب أمام بقاء بريطانيا فى اتحاد جمركى مع أوروبا. وهو التحول الذى قد يعيد بشكل جذرى هيكلية مفاوضات بريطانيا مع الإتحاد الأوروبي. فحزب العمال مدعوماً بمؤيدى البقاء داخل الاتحاد الجمركى والسوق الموحدة فى حزب المحافظين الحاكم، ونواب أحزاب الأحرار الديموقراطيون، والقومى الاسكتلندي، والخضر قادرون على هزيمة ماى فى تصويت مقرر فى مجلس العموم فى أيار (مايو) المقبل يجبر الحكومة على البقاء فى الاتحاد الجمركي. وإذا ما حدث هذا، فستكون هذه أفضل شهادة ممكنة لنهج «الطبخ على نار هادئة». فاستراتيجية حزب العمال ظلت خلال العشرين شهراً الماضية تطبخ على مهل وتضاف إليها مكونات وتسحب منها مكونات. فى المقابل وفى فورة الأجواء الملتهبة بعد البريكست، هرولت ماى عبر خطابها فى «لانكستر هاوس» إلى وضع تصور «طبخ على عجل» وقبل استكمال كل المكونات وحشرت نفسها فى «بريكست خشن» يُخرج بريطانيا من السوق الموحدة والتعريفة الجمركية وهى اليوم تجد نفسها فى وضع صعب وبدلاً من أكل الكعكة، قد لا تجد فى طبقها غير الكثير من الملح والخل.