عندما كنا صغارا.. أبرارا.. «شطارا» حقا.. ولكن آخر شقاوة وآخر «عفرتة» وهى كلمة عامية مأخوذة من كلمة «عفاريت» ولا يقف أحد فى طريق شقاوتنا ولعبنا ومحاولة هروبنا والتزويغ من باب الشقاوة أحيانا ومن جدول الحصص المدرسى المتخم والمقرر علينا أيامها والذى كان عدد حصصه فى اليوم الواحد ست حصص بحالها وبطولها. أقول قولى هذا أيها السادة وهى جملة يقولها خطباء المساجد فى صلاة الجمعة عادة عندما كانت عندنا بحق مدارس حقيقية ومدرسون حقيقيون وتعليم حقيقي.. بجد وليس كمدارس الديكور المدرسى «بتاعة الأيام دي» وآسف للعبارات العامية التى تتسلل رغما عنى إلى كتاباتي.. حيث لا جدول حصص ولا مدرسين ولا أى نشاط مدرسى الذى كنا نعرفه على أيامنا.. ولا فصول ولا كتب ولا كراريس ولا مقررات.. ولا خط عربى أو حتى افرنجي.. ولا كشف حضور وغياب.. ولا امتحانات كل شهر.. ولا حتى امتحانات آخر السنة التى يضعها الآن مدرسون لايحضرون ولا يدرسون.. وكيف يعطون دروسا لفصول بلا تلاميذ.. ماداموا مشغولون طول السنة بالتدريس فى «السناتر» إياها التى تكسّب دهب.. بالشّدة على السين والساعة فيها بالشيء الفلاني..! وتلك فى الحقيقة أردنا أم لن نرد التى أفرغت المدارس من مدرسيها وحجزتهم للسناتر اللعينة إياها حيث «الهبر بالألوف».. ألوف الجنيهات طبعا أول كل شهر.. ومرتباتهم أقصد مرتبات المدرسين ماشية »برضه« ومحفوظة فى ميزانية وزارة التعليم وهى بعلم الجميع من أكبر كبير فى الوزارة إلى عم عبدالتواب الواقف على البوابة أقصد بوابة المدرسة الكل يقبض أول الشهر من مدارس أميرية بتاعة الدولة أغلبها بلا تلاميذ.. كأنها مجرد ديكور فى فيلم سينمائى عن التعليم فى مصر الذى انتهى وراح وراحت أيامه.. إلا فى المدارس الخاصة التى يدفع فيها الآباء وأولياء الأمور دم قلبهم.. «كام ألف جنيه» أول كل سنة دراسية حتى يطلع المحروس ابنهم أو المحروسة ابنتهم فى كشوف الناجحين والناجحات بمجاميع تؤهلهم لدخول السلك الجامعي.. وسلم لى على كل من يشارك فى هذه المهزلة التعليمية.. والله يرحمك ياعم سيبويه بتاع اللغة العربية.. والله يرحمك يا عمنا وتاج راسنا الإمام محمد عبده حامى حمى اللغة العربية.. وياعمنا جمال الدين الأفعاني.. ويا عمنا زكى مبارك.. ويا عمنا قاسم أمين محرر المرأة.. ولا ننسى هنا عمنا وتاج راسنا رفاعة رافع الطهطاوى أبو التعليم فى مصر.. ومعهم أحمد شوقى أمير الشعراء وحافظ إبراهيم شاعر النيل.. ومن عنده أسماء أخرى فليتفضل؟ وحتى لا ننسى فقد كانت لدينا كراسات تطبعها وتوزعها علينا ببلاش ونحن تلاميذ فى الابتدائى وزارة المعارف على أيامى الذى تحول اسمها فى زمانى برضه بعد ثورة 23 يوليو المجيدة هكذا علمونا إلى وزارة التربية والتعليم.. أقول كانت لدينا كراسات مكتوب على ظهرها آيات قرآنية + حكم وأمثال عربية + ارشادات تربوية تعليمية هى غاية فى الأهمية للتلاميذ الصغار والكبار مثل: إغسل يديك قبل الأكل وبعده + قم للمعلم ووفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا + ذاكر درس اليوم ولا تؤجله للغد + الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق + حافظ على نظافة مدرستك ولا تلقى بالأوراق والمخلفات فى الطريق العام! .. «موش زى دلوقتى القمامة والزبالة أكوام.. أكوام».. فى الشوارع وفى الميادين..! وكان لدينا أيها السادة «حاجة كده اسمها» طابور الصباح.. وكل تلميذ لابس ملابس المدرسة والحذاء بيلمع والأظافر مقصوصة والكرافات يعنى ربطة العنق فى مكانها.. وكل فصل يقوده فى طابور الصباح حتى باب الفصل «ألفة الفصل» وهو تلميذ أيضا ولكن «شاطر حبتين» يعنى يطلع الأول على الفصل.. وكان هذا شرف ما بعده شرف على أيامنا..! وكان ناظر المدرسة بطربوشه الأحمر والبدلة الكاملة والكرافتة وكأنه فرغلى باشا أو عبود باشا فى زمانهما.. يقف فى شرفة المدرسة كما الصقر.. يراقب طابور الصباح ويسمع من أفواه التلاميذ ويردد معهم نشيد العلم الذى كنا نرفعه كل صباح إلى فوق.. إلى ساريته فى عنان السماء ونحن ننشد نشيد: بلادي.. بلادي.. لك حبى وفؤادي.. أما عن حديث الشقاوة أيام الدراسة.. فقد كانت شقاوة لذيذة وغير مؤذية.. وأذكر من هذه الشقاوات اللذيذة.. التزويغ من المدرسة بعد الفسحة الكبيرة.. يعنى كنا «نزوغ» فى آخر حصتين بالنط من على سور المدرسة لكى نلحق بحفلة الظهيرة فى سينما العلم فى القناطر الخيرية.. أو فى سينما بلاذا فى محطة مصر.. وكنا نركب إليها قطار القناطر الخيرية إلى القاهرة والذى كنا أيضا «نزوغ» فيه من الكمسارى حتى لا ندفع ثمن التذكرة.. أو لنشترى تذكرة واحدة أو اثنتين لنا كلنا نتبادلها معا ليريها كل منا للكمسارى إذا قابله صدفة فى القطار..! كانت حقا أيام علم وتعليم ودروس.. ولا بأس من بعض الشقاوة اللذيذة.. واللا إيه؟.. وإذا كنا نتحدث عن التربية والتعليم فى مدارس زمان.. فقد كانت لدينا فى مدرسة شبين الكوم الأميرية الابتدائية أكرر الابتدائية حجرة للرسم ومدرس للرسم+ حجرة للموسيقى فيها: بيانو أسود رائع يعلمنا عليه مدرس الموسيقي+ أو كورديون+ طبول لزوم طوابير الصباح+ آلات نفخ.. وكان لدينا مدرس موسيقى وله جدول حصص نحضرها معه فى حجرة الموسيقي.. وفى مدرسة القناطر الخيرية فى المرحلة الثانوية التى انتقلت إليها.. كانت لدينا حديقة كبيرة تضم كل أنواع الزهور+ حظائر لتربية الدواجن بأنواعها والأرانب أيضا تباع وتصرف المدرسة من حصيلتها على النشاط المدرسي..! وكانت لدينا فى المدرستين.. الابتدائية والثانوية مطاعم نأكل فيها ساعة الغذاء أى والله كل يوم فيما عدا يومى الاثنين والخميس وجبات مطبوخة كاملة من اللحوم والبقوليات وطباخون وسفرجية بشريط أحمر فى وسطهم.. كأننا فى فندق خمس نجوم.. وكل هذا بدون مقابل.. يا بلاش..! وكانت لدينا فى المدرستين: ملعب كرة قدم+ ملعب كرة سلة+ ترابيزات تنس طاولة+ حجرة موسيقي+ مكتبة رائعة عربى وانجليزى قرأت فيها مجلة ناشيونال جيوجرافيك لأول مرة فى حياتي!+ مصلى للصلاة.. أى والله..! ولكى تتحسروا على أيام التعليم زمان.. أقول لكم لقد كان لدينا فى المدرسة مسرح مدرسى وكراسى للحضور وكنا نحتفل آخر كل سنة داخل هذا المسرح بانتهاء الدراسة وندعو عائلات التلاميذ+ مدير المديرية فى مرتبة المحافظ، الآن ونقدم عليه مسرحية يكتبها ويخرجها التلاميذ باشراف مدرس النشاط الاجتماعى والموسيقى والألعاب؟ وكانت لدينا مسابقات فى الخطابة وفى الشعر وفى الرسم وفى الموسيقى والتمثيل أيضا..! وقد تسألون: ماذا عن مصاريف المدرسة أيامها؟ وأقول لكم انها كانت لا تتجاوز السبعين قرشا فى السنة بحالها ونأخذ كتب+ كراريس+ وجبة غذائية كاملة كل يوم+ ملابس رياضية.. والأوائل وأزعم أننى كنت واحدا منهم أيامها معرفشى ليه لا يدفعون شيئا..! ويبقى حديث الشقاوة الظريفة أيام التلمذة اللذيذة.. على أيامى وأيام جيلى كله..! واسمحوا لى هنا أن «أدوشكم حبتين» بحديث هذه الشقاوة الظريفة التى لا تضر ولا تؤذى أحدا.. طبعا أيام التلمذة اللذيذة التى لا تنسى أبدا.. وأحكى لكم هذه الحكاية: كان موعد الحفل السنوى لمدرسة شبين الكوم الابتدائية قد اقترب.. يادوب اسبوع واحد وترفع الستار عن المسرحية التى طلب منى الأستاذ عرفة الذى مازلت أتذكر اسمه مدرس اللغة العربية والمشرف على الحفل أن تكون جاهزة.. بوصفي: ألفة الفصل وكان عليَّ أن أجهز فصلا من مسرحية من مسرحيات نجيب الريحانى أو على الكسار نقدمها فى آخر الحفل الذى توزع فيه الجوائز على أحسن رسام وأحسن مطرب وأحسن شاعر وأحسن مؤلف مسرحي.. وأحسن رياضي.. ولما كان الوقت ضيقا جدا.. فقد تطوعت أنا بكتابة مسرحية من فصل واحد شاركنى فى كتابتها أخى الأكبر صلاح واخترنا لها اسما مثيرا مأخوذا من أغنية شهيرة أيامها كانت تغنيها منيرة المهدية بعنوان: يا انا يا أمك فى البيت..! وبحثنا طويلا عن فتاة تقوم بدور البنت.. فلم نجد.. وفى الآخر استقر رأينا على بنت عم حموكشة بتاع البطاطا التى تبيع لنا فى الصباح أمام باب المدرسة البطاطا الساخنة المشوية بالملح والشطة.. وكان اسمها »حلوتهم«..! واخذنا حلوتهم من وراء علم أبيها «الحمش جدا» لكى تتدرب على المسرحية مقابل جنيه مصرى واحد جمعناه أيامها من مصروفنا..أيام كان الجنيه جنيها بشنبات! الست منيرة المهدية
المهم اننا أعددنا فصلا من مسرحية جميلة جدا بعنوان: يانا يا أمك فى البيت.. وحفظنا حلاوتهم الأغنية التى كانت تغنيها منيرة المهدية أيامها بنفس الاسم.. وكان صوتها شجيا حقا.. وجاء موعد الحفل وغنت حلاوتهم للمدعوين من أولياء الأمور وكبار الموظفين وسيدات المجتمع.. بصوتها الشجي: يا انا يا أمك فى البيت.. وصفق لها الحاضرون طويلا..! ولكننا فوجئنا بأبيها المعلم «حموكشة» يقتحم علينا المسرح صارخا فى ابنته: وكمان بتغنى يا بنت ال .. وسحبها من شعرها.. وأخذها ومضى وسط ذهول الحاضرين.. وهاص المتفرجون.. ولكننا أنا وزمايلى جرينا خلف المعلم نحاول أن نقنعه بأن يترك ابنته تكمل الفاصل الغنائي.. ووضعنا له فى جيبه كل ما بقى معنا من نقود.. وقلنا له: معلش يا معلم آخر مرة.. حتى رضى أخيرا.. وعادت حلوتهم للمسرح.. لتشدوا بأغنية منيرة المهدية وسط تصفيق الحاضرين.. الذين تصوروا ليلتها أن ما حدث كله كان جزءا من المسرحية...! الذى لا يعرفه أحد والذى أبوح به الآن لأول مرة.. أن المطرب المعروف عبدالغنى السيد صاحب أغنية: البيض الأمارة والسمر العذارى كان حاضرا فى الحفل.. وطلب منا بعد الحفل أن يجلس مع حلاوتهم وقال لنا: صوتها جنان.. زى منيرة المهدية بالضبط.. بس على شبابي! المهم إنه جلس معها واستمع إليها جيدا.. ثم قال لنا: أنا حعمل منها صوت غنائى نسائى يفرقع! ولم يكن التليفزيون قد دخل حياتنا بعد.. ومضت الأيام.. وإذا بنا نسمع الست حلاوتهم فى الاذاعة المصرية تغنى لكن باسم آخر اختاره لها عبدالغنى السيد هو على ما أذكر نورهان!.. كانت أيام. .. ويبقى لقاؤنا صغارا مع الرئيس جمال عبدالناصر .. ولكن ذلك حديثنا القادم إن شاء الله {{ أيها السادة.. هذا حديث ذو شجون وعيون عن مدارس زمان .. أيام كانت عندنا مدارس حقيقية وليست كمدارس الديكور هذه الأيام!!