سؤال الهوية نادرا ما نجده مطروحا في الدول المتقدمة, فلا نجد الأمريكان يتساءلون: من نحن؟ ولا كذلك الانجليز, والفرنسيين, والألمان, وهكذا وهذا في حد ذاته مؤشر علي أن ثمة علاقة ما بين التقدم وبين الاتفاق القومي العام علي الهوية. من المؤسف حقا أن نصارح القارئ بأن سؤال الهوية مطروح في مصر منذ ما يقرب من قرن ونصف من الزمان, قد يعلو الحديث عنه فترة, ثم يخبو, ثم يعاول الظهور.. وهكذا وكانت بدايته علي وجه التقريب, عندما ظهرت فكرة الجامعة الإسلامية إبان خضوع مصر للخلافة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر, وقد ظل الأمر قرونا عدة غير مطروح, حيث فرض وجود مصر ضمن دول الخلافة الإسلامية مؤشرا علي أن الهوية إسلامية.. فلما بدأ الاتصال بالغرب يشتد, وخاصة منذ بداية الاحتلال البريطاني عام1882, وفي الوقت نفسه تضعف الصلة بالخلافة, وعاد كثير من المبعوثين المصريين من أوروبا, بدأ الحديث يدور حول اختصاص مصر, بهوية تميزها عن غيرها, وكان رائد هذا أحمد لطفي السيد, الذي اعترض بشدة علي حركة التضامن التي بدت مع حرب طرابلس( ليبيا) عام1911, وعزز من دعوة لطفي السيد حركة الكشوف الأثرية لمصر القديمة, التي بدونا من خلالها قوما أصحاب تميز خاص, وهوية مؤكدة يتسم بها سكان مصر. مع حركة الاضطهاد العثمانية لعرب الشام, وتدفق عدد غير قليل من زعمائهم السياسيين وأعلامهم الفكرية والفنية والصحفية إلي مصر, وبدء ظهور المشكلة الفلسطينية, بدأ التيار العروبي يعلو صوته شيئا فشيئا, كي يبلغ ذروته بحرب فلسطين وظهور الكيان الصهيوني, بكل ما اتسم به من عدوانية وعنصرية, لكن سقوط الخلافة, كان إيذانا بتدفق مشاعر قوية, عززتها إرادة سياسية من قبل زعيم ثورة يوليو, جمال عبدالناصر, بلغت ذروتها بالوحدة مع سوريا عام1958, لكن هزيمة1967 أصابت النزعة العروبية إصابة خطيرة, وعزز من التباعد عنها, ما سعي نظام السادات من التأكيد عليه, وخاصة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد, ليصل التيار العروبي إلي أدني مستوياته, بإقصاء مصر عن جماعة الدول العربية عدة سنوات. وإذا كان البعض قد قال باننا ننتمي إلي شعوب البحر الأبيض المتوسط وثقافتها, وعبر عن هذا بقوة الدكتور طه حسين في كتابه( مستقبل الثقافة في مصر), فإن هذه الدعوة لم تستمر طويلا, حيث كانت ضعيفة, بل إن صاحبها نفسه لم يكرر الدعوة إليها, خاصة وأن نفيها لا يمكن أن يكون حائلا بيننا وبين اغتراف كل ما يمكن الوصول إليه من المعارف الغربية وما بها من علوم وتقنيات, وفي يقيني, أنه بالقدر الذي يتوافر فيه وهي بأهمية قضية الهوية, وبقدر ما يكون فيه توافق مماثل بين أعضاء اللجنة الخاصة بوضع دستور مصر الثورة حول القسمات الرئيسية لهوية مصر, بقدر ما نكون قد وضعنا حجر الأساس لانطلاقة حضارية مؤكدة. ويوجب هذا التوافق, هو أن الحقيقة تشير إلي خطأ تصور إمكان إخضاع مصر لتوجه واحد, ذلك أن مسيرتها التاريخية والثقافية, وموقعها الجغرافي, ومصالحها, وحقيقة وضعها المعاصر, يؤكد أن هويتها ذات أبعاد ثلاثة: المصرية, والعربية, والإسلامية. ويمكن أن تقول انها مستويات ثلاث, ليس بينها تضاد أو تناقض وتعارض. ونقصد بالمصرية هنا الوضع القانوني الدولي, والتاريخ الطويل الممتد عبر آلاف السنين, فضلا عن متغيرات الجغرافيا, بمناخها وتضاريسها ونيلها, ومحاصيلها, وتربتها, وإقامة كل منا علي أرضها, إي نتنفس هواءها ونشرب من نيلها, ونستبطن عمقها التاريخي, لا نملك معه إلا أن يردد كل منا مع سيد درويش: أنا المصري, كريم العنصري.. وحقائق الجغرافيا والتاريخ هذه التي تؤكد المصرية, يستحيل أن تدير ظهرها إلي واقع سيادة اللغة العربية, عبر أربعة عشر قرنا من الزمان, واللغة ليست حروفا وكلمات, وإنما هي ثقافة بالأساس, تحمل من القيم والميول والاتجاهات والمفاهيم, والقواسم المشتركة, ما يكون مشكلا, وبقوة, لابعاد الشخصية الوطنية. بل إن الأمر, في رأي باحثين كثر, يتجاوز مسألة اللغة ليؤكد علي أصول عرقية وثقافية تسبق دخول الإسلام مصر, وليرجع القارئ في ذلك إلي آخر كتاب للدكتور محمد العوا في هذا الشأن, وقبله بأكثر من نصف قرن, كتيب صغير افتتح به عباس العقاد سلسلة رائعة بدأت في الظهور أول الستينيات باسم المكتبة الثقافية, أكد فيه العقاد علي أصول عربية ثقافية للمصرين, تسبق ظهور الإسلام, وكذلك كتاب لنا باسم( الهوية والتعليم). عندما نقول بالبعد الثالث, وهو الإسلام فنحن لا نخص به المسلمين وحدهم, وإنما نعممه علي الإخوة المسيحيين المصريين, مع اختلاف في زاوية الرؤية والتعامل هنا, فالإسلام بالنسبة للمسلمين, هو عقيدة وثقافة, يحتكمون إلي شريعته, ويفكرون ويسلكون وفق ثقافته, وبالنسبة للمسيحيين هو ثقافة وليس ديانة, إذ لهم ديانتهم التي يجب أن تكون لها آيات التقدير والاحترام, والتي تكون مرجعيتهم في أحوالهم الشخصية, ومن قبل أدرك الزعيم القبطي العظيم مكرم عبيد هذه الحقيقة, فكانت قولته المشهورة: أنا مسلم ثقافة, قبطي ديانة. هذه الأبعاد, أو المستويات الثلاثة, أصبحت تشكل أركان الشخصية المصرية منذ عدة قرون, وسوف يفشل كل من يحاول أن يغلب بعدا علي البعدين الآخرين, لأنه بهذا يريد أن يناهض الواقع, ولا يبصر المصلحة الحقيقية. وضرورة التسليم بهذه الأبعاد الثلاثة تفرض نبذ منطق( إما.. أو), لتغلب منطق(... و...), ولا يعني هذا أن تكون المسألة قسمة بالتساوي بين الأبعاد الثلاثة, ذلك أن بروز بعد علي غيره, إنما هو أمر تحدده المواقف, وتوجهه المصلحة الوطنية, تلك المصلحة التي قد يتصور بعض الإسلاميين تأخرها عن الإسلامية, ونؤكد نحن أن كل ما يصب في مصلحة الوطن, يصب أيضا في مصلحة الإسلام وبالقدر الذي نحكم فيه النظر إلي هذه الأبعاد الثلاثة, بالقدر الذي ننجح فيه في الانطلاق بمصر نحو آفاق النهوض الحضاري. المزيد من مقالات د.سعيد اسماعيل على