فى لحظة قد تبدو هى الانسب, إذ نعاصر بالفعل لحظة تحول هائلة فى الصحافة الأمريكية بشكل خاص ومهنة الصحافة نفسها بشكل عام, تأتى ليندا جرينهاوس, أحد مخضرمى الصحافة الأمريكية , والحائزة على جائزة بولتزر للصحافة, لترصد بعد مشوار مهنى تعدى الأربعين عاما, كيف ترى الصحافة الأمريكية اليوم وبالأمس وما هو رأيها الشخصى فى المعايير الصارمة التى وضعتها المؤسسات والمنظمات الصحفية الأمريكية حفاظا على الحيادية, وكيف تم تجاوز هذه الحيادية تماما مع الرئيس الأمريكى الحالى, فى صراع شبه يومى بين الطرفين, وتؤكد فى كتابها الجديد «مجرد صحفى» ان تلك «الحيادية المزعومة» فى النهاية قد حرمت الصحفى من ان يكون انسانا من حقه ان يعبر عن رايه باى شكل كان, بل الأدهى انها حرمته احيانا من استخدام عقله تماما. ..................................... كتاب الصحفية الأمريكية الذى تصدر قائمة اعلى الكتب مبيعا مؤخرا فى الولاياتالمتحدة, يأتى بعد خبرة اربعين عاما من عملها كمراسلة لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فى المحكمة الامريكية العليا, فى لحظة قد تكون غير مسبوقة فى تاريخ الصحافة الامريكية, بدأت كأزمة درامية تصاعدت فيها الاحداث المشوقة اثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب, عندما قرر الاعلام الأمريكى, ما بدا كموقف نهائى من جهته, بعدم الاكتراث بإظهار عدائيته الواضحة ومواقفه المسبقة من مرشح البيت الابيض عن الجمهوريين, دون ان يهتم كثيرا بالمعايير الاخلاقية المهنية، وقد انتهى الامر بموقف شديد التحيز من كلا الطرفين تجاه الاخر: من اصبح بالفعل الرئيس والاعلام, فى تبادل شبه يومى للاتهامات من قبل الجانبين, وخاصة الصحافة التى تجاوزت جميع المعايير الحيادية المهنية فى تعاملها ورصدها لمواقف وتحركات رئيس الولاياتالمتحدة, وما بين الرئيس نفسه الذى –فى افضل الظروف- قرر تجاهلها وفضل التواصل عبر منصات شبكات التواصل الاجتماعى بدلا من الاعتماد على الدور التقليدى للإعلام. فكانت النتيجة ان تآكلت الثقة فى المنافذ الاعلامية الامريكية التى ظل الجمهور يثق فيها لعقود طويلة, مما ادى بالتبعية الى فقدان الثقة فى الكثير من المؤسسات الديمقراطية وسلطتها. الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية تحاول فيه جرينهاوس ان تدافع بكل قوتها عن انه قد ان الاوان لكسر الحواجز بين دور الصحفى ودور المواطن, او دور الانسان الذى يعمل كصحفى. تروى جرينهاوس انه قبل بضعة اعوام فقط كانت الصحافة الرئيسية الامريكية تصارع ما اذا كان استخدام كلمة واحدة بدلا من اخرى فيه انتهاك لمعايير الحياد المهنى والموضوعية، وكيف ان الصحف الامريكية الكبرى اليوم , تكيل الالفاظ -التى لم تستخدم من قبل- لوصف رئيس أقل، وترى انه من الواضح ان الكثير قد تغير مع استخدام القواعد القديمة من «التوازن» وعرض جانبى القصة, تكتب: يبدو انها معايير قد فقدت قوتها فى عالم الصحافة الامريكية, فهل هذا التغيير نحو الافضل , وهل سيستمر؟» . فى الجزء الاول من الكتاب تحاول جرينهاوس ان تستعرض التغيرات التى طرأت على المهنة وعيوبها, فيما تطلق عليه «عصر ما بعد الحقيقة» عندما يستخدم الصحفى عناوين لقصصه الاخبارية لا تعبر عن متن الخبر, او يبدى تحيزه الشخصى عندما يصنف الرئيس الامريكى مثلا بانه كاذب. انها تنتقد تلك المنظمات الاخبارية التى تغطى سياسات وخطابات الرئيس الامريكى وترى انها فى حقيقة الامر تخلط بين الحق والباطل, وان هذا الصراع المحتدم ما بين الرئيس والصحافة يضع بالفعل نزاهة الصحافة الامريكية على المحك, سواء كان ذلك خلال حملته الانتخابية او حتى بعد توليه مهام منصبه. التوازن الزائف: تعلق جرينهاوس فى كتابها, بالقول إنها على الرغم من احترامها لعدد كبير من زملائها القدامى فى المهنة الذين حافظوا وكافحوا من اجل الحفاظ على موضوعيتهم والتزاماتهم الاخلاقية امام تصريحات ترامب النارية ضد الصحافة, تضيف: «لقد تابعتهم بكل فخر ...كيف حافظوا على ولااتهم القديمة لأخلاقيات المهنة التى تتآكل الان, مع محاولات الاجيال الجديدة من الصحفيين ان يقدموا الخبر من وجهة نظرهم الشخصية او كما تصورا انهم قد فهموه.» المرأة فى عالم الصحافة الأمريكى: فى الجزء الثالث والاخير من الكتاب, تتحدث جرينهاوس عن وضع المرأة الامريكية فى الصحافة وتسرد حالتها الخاصة عندما التحقت بالعمل الصحفى فى بداية حياتها المهنية والصعوبات التى واجهتها عندما كان عمل «الصحفية» شأنا شاذا على مهنة الصحافة, تروى كيف انها عندما دخلت عالم الصحافة « كانت لدى احلام, ولكن لم اكن استطيع القول انه كانت لدى توقعات, فلم يكن لدى نموذج احتذى به, لأنه لم تكن النساء قد وصلن الى المناصب القيادية بعد فى عالم الصحافة» ولكنها قررت ان تكون نموذجا للصحفيات بعدها. تقول انها بعد ذلك من خلال عملها ضمنت ان تجلس فى الصف الامامى فى اعلى محكمة فى الولاياتالمتحدة فى الفترة ما بين 1978 وحتى عام 2008, وهى الفترة التى غطت فيها المحكمة. كانت قد نالت عام 1998 جائزة بولتزر فى مجال كتابة التقارير عن مجمل تغطيتها للمحكمة العليا الأمريكية, فى عام 2004 حصلت على جائزة جولد سميث كارير, لتميزها فى مجال الصحافة من جامعة هارفارد ثم نالت وسام شرف كلية ريدكليف عام 2006 بجانب كل من مادلين اولبرايت وتونى موريسون, لكونها «شخصا كان له تأثير ادى الى تحول فى المجتمع» كانت جرينهاوس بعد تخرجها فى كلية الحقوق بجامعة ييل عام 1968 قد حصلت على عمل فى صحيفة نيويورك تايمز وتروى انها فى المقابلة الاولى لها مع مدير اخبار الجريدة عرض عليها بعد تردد انه يمكنها ان ترد فقط على الهاتف تحت ادارة مدير غرفة الاخبار , إلى أن صارت جرينهاوس واحدة من ابرز الصحفيات فى ذلك الوقت اللاتى قاضين اصحاب الصحف الامريكية بسبب التمييز ما بين الجنسين بموجب الباب السابع من قانون الحقوق المدينة وذلك فى عام 1978 فى قضية شهيرة كانت تعتمد على ان التمييز لم يكن فقط فى مجالات العمل داخل الصحف بل ايضا فى اعطاء النساء دخل اقل من الرجل حتى ولو كن يعملن نفس العمل و نفس عدد الساعات, بعدها تغير الحال رأسا على عقب واصبح من حق المرأة الصحفية ان تحصل على نفس راتب الصحفى الذكر. إلغاء العقل: كثيرا ما ظلت جرينهاوس تردد طوال مشوارها المهنى وفى كتابها , انها كثيرا ما كنت تجد نفسها على الجانب الخاطئ فما وصفته ب «الحدود الغامضة والمتغيرة» التى تفصل ما بين دور الصحفى فى جانب ودور المواطن فى الجانب الاخر, وانها ظلت تتأرجح ما بين الجانبين فى عالم الصحافة الذى وصفته بانه متزايد الهشاشة ولكن الذى ما زال له دور حيوى بالرغم من انه يقف الان فى منطقة غامضة ومعقدة. كانت واحدة من ابرز المحطات التى واجهت فيها جرينهاوس هذا الدور المربك, عام 1989 عندما اثيرت حولها قضية مثيرة للجدل, حول مواقفها كناشطة اجتماعية وسياسية فى مجال المطالبة بالحقوق الانجابية للمرأة, كان ذلك عندما حضرت بصفتها الشخصية مسيرة فى واشنطن العاصمة للمطالبة بالحقوق الانجابية للمرأة, وقتها اتهمت بانها فى مركزها الحساس كمراسلة للمحكمة العليا الامريكية قد تخلت عن حيادها وموضوعيتها بانحيازها لجهة معينة, وقتها تخلت صحيفتها عنها ولم تدافع عن موقفها عندما قالت انه من حقها كمواطنة ان تمارس اختياراتها وقناعاتها الشخصية, ثم كان موقفها الثانى المثير للجدل عندما استخدمت تعبير «المناطق الخالية من القانون» فى كتابتها حول قضية شهيرة كانت عام 2004 ضد جورج دبليو بوش الذى تعمد ابقاء سجناء خليج جوانتانامو وسجن ابو غريب خارج نطاق قانون المقاضاة فى المحاكم الامريكية, وصرحت وقتها بان الاصولية الدينية تخطف السياسة الامريكية. فى نهاية المطاف وفيما يبدو انه نقد شديد القسوة على ما وصل له عالم الصحافة الامريكية, وخاصة حول ما يتعرض له الصحفى بدعوى «الموضوعية» من ضغوط داخل المؤسسات الصحفية التى تحرمه من التعبير عن شخصه, ترى جرينهاوس كيف ان الكتاب الصحفيين الامريكيين قد تعرضوا للكثير من المضايقات, حتى أصبح «اكبر انجاز يمكن للصحفى تحقيقه على الاطلاق هو ان يلغى عقله تماما.»