تواجه مصرنا الحبيبة وأمتنا الإسلامية جملة من المشكلات والعقبات التى تعوق نهضة الوطن وتقدم الأمة، وتقف حائلًا دون استكمال مسيرتهما نحو الرقى واستعادة دورهما المحورى ومكانتهما الرائدة على المستويات كافة. ومن هذه المشكلات التى تعانيها مجتمعاتنا الفقر والجهل والمرض والبطالة، إلى جانب ما ابتلينا به فى الآونة الأخيرة من تطرف فكرى وانحلال أخلاقي؛ حيث تخطف حفنة من الذين باعوا دينهم وأوطانهم بعض شبابنا مستغلين مشكلاتهم الحياتية ومعاناتهم فى سبيل الحصول على لقمة العيش، وكذلك الخواء الفكرى الذى يعانيه بعض شبابنا، فانحرفوا بهم من وسطية الإسلام إلى ساحات الفحش والانحطاط وميادين التطرف والإرهاب، فكانت النتيجة أن فقدنا كثيرًا من حماة الوطن من رجال الجيش والشرطة، وغيرهم من الآمنين من الأطفال والشباب والشيوخ والنساء، وأصبح الانحراف الأخلاقى حقًّا لأصحابه يجاهرون به ويدافعون عنه باعتباره حرية شخصية! وفى الوقت الذى تسعى فيه مؤسسات الدولة المعنية لمواجهة هذه المشكلات، تجد بعض الناس يغردون خارج السرب؛ حيث يتحدثون عن إباحة (المشروبات الروحية) التى قد يبلغ ثمن العبوة الواحدة منها دخل شهر كامل لكثير من الشباب الذين يعانون من أجل إيجاد فرصة عمل مناسبة. ويتذرع هؤلاء بتفريق السادة الحنفية بين الخمر والنبيذ، وحصر الخمر فى الشراب المصنوع من العنب بطريقة معينة، وهى أن يغلى العنب غليًا شديدًا حتى يشتد ويقذف بالزبد ثم يترك فترة معينة قبل أن يُشرب منه، وهو بهذه الطريقة حرام لأن قليله مسكر. أما النبيذ الذى هو عصير عنب - أو غيره كالتمر ونحوه - لم يكتمل تصنيعه بالطريقة التى يصير معها خمرًا، فإنه لا حد فيه عندهم إلا إذا سكر شاربه؛ لأنه إن أسكر بعد شربه فقد تبين أنه حمل صفة من صفات الخمر، فيحرم عندئذ ويجب فيه الحد، وإن لم يسكر فيدرأ الحد عن شاربه ليس لأنه حلال كما فهم بعض أصحاب الأفهام السقيمة ولكن للشبهة فى كون المشروب من النبيذ مسكرًا أم لا؛ حيث إنه حرام ويأثم شاربه لقول النبى - صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام»، وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، فكيف يحل الحنفية - كما يدعى هؤلاء - ما حرمه النبي؟! والخلاف فى المسألة - من وجهة نظرى - ليس لأن الحنفية يحلون القدر غير المسكر من النبيذ كما فهم بعض الأدعياء، بل لشكهم فى كون المشروب مسكرًا، فهو من باب الاحتياط حتى لا يقام الحد مع الشك فى المشروب هل هو مسكر أم لا، ولذا ينقطع هذا الشك متى سكر الشارب بالفعل فيحد عندئذ، أما إذا كان هناك يقين بأن المشروب مسكر كما هو الحال فى الخمر، فإن مجرد ثبوت شرب قطرة منه - مع أنها لا تسكر - موجب لإقامة الحد على شاربها بلا خلاف بين الفقهاء. ومن ثم، فإن إقامة حد الشرب إنما يكون على مَن شرب خمرًا بعينها وإن لم يسكر، أو شرب شيئًا آخر فسكر وإن لم يكن خمرًا، أما عدم إقامة الحد على مَن شرب نبيذًا ولم يسكر - مع حرمته وإثم فاعله كما تقدم - فذلك درء للحد مع الشك. أما المشروبات المصنوعة من غير العنب فى زماننا وغيرها مما على شاكلتها، فغالبها مركبات كيميائية مسكرة، وإن لم تكن مسكرة فهى مذهبة للعقل متلفة للصحة مبددة للمال، ولذا فإنها إن فاتها التحريم لعدم سكر بعضها، فإنه يكفى تحقق إضرارها لثبوت تحريمها، فضلًا عن أنه لا يتصور أن الحنفية أو غيرهم يبيحون (الويسكى والفودكا والهيروين والكوكايين والماكس)، وغير ذلك من مشروبات ومشمومات ومحقونات، بحجة أنها ليست الخمر المصنوعة من العنب بطريقة معينة، مع أن الثابت والمؤكد أن هذه السموم تدمر صحة الأقوياء قبل الضعفاء. وعلى فرض صحة ما يقول به أصحاب العقول السقيمة هؤلاء مما ينسبونه ظلمًا وزورًا إلى السادة الأحناف، فهل يؤخذ بقولهم فى مقابل ما تقضى به عقولنا التى وهبنا الله إياها لنفرق بين الضار والنافع، ونتبع نهج شرعنا الحنيف فى تحريم المضار وإباحة المنافع، وما اتفقت عليه بقية المذاهب المعتبرة من تحريم القليل والكثير من المسكر من غير نظر إلى مادته التى صنع منها؟! هل يزعم أحد أن هذه السموم التى ذكرنا جانبًا منها ليست ضارة، ومن ثم فلا مجال ولا علة لتحريمها شرعًا وتجريم تعاطيها والاتجار بها قانونًا؟! ولست أدرى ما الذى يجعل هؤلاء النفر يصرون على فتح باب الشر أمام شبابنا بدلًا من إرشادهم إلى تغيير ثقافتهم ليكونوا أداة نافعة تعمر الأرض، وتباشر الأعمال والمهن المختلفة حتى لو لم تناسب مؤهلاتهم، ودعوتهم إلى القبول بالأعمال التى تقوى عليها أبدانهم وتدر عليهم دخلًا يكفى لحياة كريمة تغنيهم عن سؤال الناس أو العيش عالة على ذويهم انتظارًا لوظيفة قد لا تأتي، ولا يفيقون إلا وقد فاتتهم محطات الزواج وامتلاك مسكن ملائم وتكوين أسرة صالحة تعيش فى هدوء نفس وراحة بال! ولا أدرى لماذا لا يُعمل هؤلاء عقولهم وأقلامهم فى كتب التراث التى يحملونها كل نقيصة ليستخرجوا منها كنوزها الدفينة التى ترتقى بالإنسان، وتعلى من قيمة العمل، وتحفظ عقول شبابنا وأبدانهم، وتحثهم على بناء أوطانهم، وتجنبهم مسالك الانحلال والتطرف التى تهدد مجتمعنا وتذهب بخيرة شبابنا. لمزيد من مقالات د. عباس شومان - وكيل الازهر