لم يكن إعلان سعد الحريرى، رئيس الحكومة اللبنانية، استقالته التى أعلنها من الرياض أمس أمرا مفاجئا لدى البعض، فى ظل الانقسامات التى تعيشها لبنان، والضغوط التى تعرض لها "الحريرى" من قوى دولية، مثل إيران وسوريا، ومحلية، مثل "حزب الله". وصل "الحريرى"، المولود فى السعودية، إلى سدة رئاسة الحكومة بلبنان فى نوفمبر 2016، بموجب تسوية سياسية أتت بحليف "حزب الله" الأبرز ميشال عون إلى سدة رئاسة الجمهورية، بعد عامين ونصف العام من فراغ رئاسة الجمهورية. وخاض "الحريرى"، منذ دخوله معترك السياسة قبل 12 عاما، مواجهات سياسية عدة مع دمشق و"حزب الله"، لكنه اضطر مرارا إلى التنازل لهذين الخصمين القويين. ويأتى خطاب "الحريرى"، الذى أعلن فيه استقالته، بعد تصعيد كلامى من السعودية ضد إيران و"حزب الله"، على لسان وزير الدولة السعودى لشئون الخليج العربى، ثامر السبهان، الذى التقى "الحريرى" قبل أيام فى الرياض، ثم كتب "السبهان"، فى تغريدة على موقع "توتير" قبل أيام: "اجتماع مطول ومثمر مع أخى دولة الرئيس سعد الحريرى، واتفاق على كثير من الأمور التى تهم الشعب اللبنانى، وبإذن الله القادم أفضل". ولد "الحريرى" عام 1970، وهو سياسى ورجل أعمال، والده رفيق الحريرى، رئيس وزراء لبنان الأسبق، الذى حصل وعائلته على الجنسية السعودية عام 1978، بعد أن هاجروا إلى هناك فى نهاية ستينيات القرن العشرين. دخل "سعد" عالم السياسة بعد اغتيال والده رفيق الحريرى فى عام 2005، وشكل ما يعرف باسم "تحالف 14 آذار" مع رئيس الحزب التقدمى الاشتراكى، وليد جنبلاط، والرئيس التنفيذى للقوات اللبنانية، سمير جعجع، وهو التحالف الذى قاد إلى ما عرف باسم "ثورة الأرز" التى كان من نتائجها خروج الجيش السورى من لبنان. وتلا ذلك انتخابه نائبًا فى البرلمان لدورة عام 2005 عن مقعد السنة، فى دائرة بيروت الأولى، الذى كان يشغله والده فى الدورات السابقة، وأعيد انتخابه لدورة البرلمان عام 2009. و فى 27 يونيو 2009 كلفه الرئيس ميشال سليمان بتشكيل الحكومة الجديدة الأولى له، التى تلت الانتخابات، وبعد شهرين ونصف الشهر من تكليفه بتشكيل الحكومة قدم إلى رئيس الجمهورية، ميشال سليمان، تصورا لتشكيل الحكومة، إلا أن المعارضة رفضت هذا التشكيل، وأعلن بعد لقائه رئيس الجمهورية اعتذاره عن تشكيل الحكومة، وبعد حوارات ومناقشات ومفاوضات شاقة، استطاع أن يعلن تشكيل حكومته الأولى فى 9 نوفمبر 2009. وقد واجهت حكومته الأولى صعوبات عديدة، خاصة بعد اقتراب صدور الحكم بشأن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريرى، وإصرار وزراء "حزب الله"، وحركة "أمل"، و"التيار الوطنى الحر" على طرح موضوع شهود الزور بالقضية، وإحالتهم للمجلس العدلى، وقدم نحو 11 وزيرا من "حزب الله" استقالاتهم بعد ذلك، مما أدى إلى فقدان الحكومة نصابها الدستورى، ومن ثم اعتبارها مستقيلة.وبعد انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية، كلف الأخير "الحريرى" رسميا برئاسة الحكومة، وذلك فى 11 نوفمبر عام 2016، ونال "الحريرى" 110 أصوات من نواب البرلمان، البالغ عددهم 126، بعد استقالة أحد النواب. ومن المؤكد أن استقالة "الحريرى" المفاجئة تعكس بوضوح تعقيدات المشهد اللبنانى، وانعكاسات الوضع الإقليمى والدولى المتأزم عليه، وتلقى بظلال قاتمة على الوضع فى لبنان، خط التماس بين الأطراف المتناقضة، التى يبدو أنها تستعد لجولات أخرى من الصراع قد ينذر بمستقبل مجهول لبلد صغير يخشى كثيرون أن يدفع أهله أثمانا باهظة لصراعاته التى لا تنتهى.