كأنه هويس انفتحت المتاريس التي تحكم إغلاق أبوابه، لتندفع المياه، المحتجزة وراءه من زمن بعيد بقوة جارفة كل من يقف في طريقها. لا يكاد يمر يوما خلال الأسبوعين الماضيين إلا وتجرف «موجات مزاعم التحرش الجنسي» سياسيا أو إعلاميا أو برلمانيا في بريطانيا.وكلما فتح بريطاني صحيفة أو تنقل بين الشاشات أو محطات الإذاعة صدم ببلاغ سيدة أو فتاة عن تعرضها للتحرش في مكان عملها. وفجأة، تبين أن سكرتيرات أنشأن مجموعة سرية على «واتساب» للدردشة بشأن تعرضهن للتحرش الجنسي من جانب رؤسائهن في العمل. ثم ظهر أن نسوة في «بي بي سي» من المذيعات والصحفيات، يشكلن مجموعة عمل نسائية «سرية» لمواجهة ممارسات رجالية وصفت بأنها ترقى لأن تكون «ثقافة تحرش جنسي» في المؤسسة العريقة التي يمولها الشعب. وأثيرت مخاوف، داخل المؤسسة، من أن همس هؤلاء النساء بما يحدث لبعضهن قد يكشف الكثير مما قد يكون مستورا في ال «بي بي سي» التي تنشغل، بكل خدماتها التليفزيونية والإذاعية والرقمية المحلية والعالمية، بموسم «100 امرأة». وهذا يوحي بأن خوف النساء من سطوة المديرين وصلاحياتهم المطلقة في ال «بي بي سي» بلغ حدا يستدعي وقفة. وبعد ال «بي بي سي» صرخت مؤسسة رويال كورت، المعنية بشئون المسرح، شاكية من أن حجم الاعتداءات الجنسية على النساء في الأوساط المسرحية «غير عادي». وقالت إنها تلقت خلال الأيام القليلة الماضية «150 حكاية تحرش واعتداء جنسي». ونصحت كل المسارح بأن تكشف عما لديها من حالات لتشكيل لوبي للحد من الظاهرة. وبعدما بدا، بفعل الاهتمام الإعلامي والسياسي رفيع المستوى، أن بريطانيا أصبحت «ساحة» يتحرش فيها الرجال بالنساء، آثر وزير الدفاع مايكل فالكون قطع الطرق على الفضائح. واعترف بأنه ذات مرة، قبل 15 سنة، وضع يده على ركبة مذيعة، ما أوحى لها بأنه نيته جنسية. ورغم ان المذيعة قالت إن الموضوع انتهى حينها بعد أن صدت، فالون، الذي كان وزير دولة حينئذ، وأنه لم يكن هناك أي اعتداء جنسي، فإن فالون اختار الاستقالة «لأنه توقع مزيدا من الادعاءات ضده». الصدمة الأكبر هي مجلس العموم، هيئة نواب الشعب. فبعد أن فتحت موجة الاتهامات بالتحرش الجنسي والاغتصاب الموجهة إلى المنتج السينمائي هارفي واينستين الأبواب، بدا أن الخوف لدى البريطانيات قد زال. وتسربت من داخل البرلمان شكاوى السكرتيرات اللاتي كشفت عن أنه لا يحلو لبعض النواب ممارسة التحرش داخل مكاتب البرلمان. فهذا نائب، طلب من معاونته أن تشتري له أدوات للمتعة الجنسية، كما تغزل ذات مرة عام 2010 في نهديها أمام الناس وهما في مقهى داخل مجلس العموم. ورغم أن النائب، الذي هو الآن وزير دولة لشئون التجارة الدولية، أقر بما قالته السكرتيرة، فإنه لم يعتبر هذا السلوك تحرشا. وذلك نائب حالي ووزير بارز سابق، يعترف بأنه أرسل رسائل نصية يطلب فيها ممارسة الجنس مع فتاة عمرها 19 سنة بعد أن شارك في لجنة أجرت مقابلة معها بشأن وظيفة في البرلمان. وفي خضم المياه المنجرفة بعد فتح أبواب هويس التحرش، لم يفلح اعتراف ستيفن كراب الوزير السابق، الذي كان أيضا وقت مراودته الفتاه عن نفسها أحد مسئولي الانضباط داخل الهيئة البرلمانية لحزب المحافظين الحاكم، بخطئه وغباء سلوكه في حماية من التجريس في وسائل الإعلام. وواجه النائب، الذي استقال العام الماضي من منصبه كوزير للعمل والمعاشات بسبب واقعة مشابهة، اتهامات بأنه استغل منصبه لابتزاز الفتاة. قائمة النواب الذين يواجهون بالفعل ادعاءات بالتحرش الجنسي تطول يوميا حتى بلغت الآن 13 نائبا من مختلف الأحزاب الممثلة في البرلمان. وتقول تقارير إن هناك 36 نائبا من حزب المحافظين الحاكم، بينهم 20 وزيرا على الأقل يواجهون شبهة ممارسة سلوك غير ملائم. وهيأت هذه الأجواء الفرصة لجمعيات مقاومة التحرش بالنساء ومطاردتهن في الشارع. وصدم البريطانيون بإحصاءات مفزعة تقول إن 85 في المائة من السيدات صغيرات السن تعرضن للتحرش بهن في الشارع، وتعرض 45 في المائة منهن «للمس غير المرغوب فيه ذي طابع جنسي»، وهو ما يعتبره القانون البريطاني الصارم شكلا من أشكال الاعتداء الجنسي. كما أن 64 في المائة من السيدات من مختلف الأعمار تعرضن للتحرش بأشكال تشمل «اللمس الجنسي». حالة التلبس بالتحرش التي تعيشها بريطانيا وتكشف عنها مثل هذه الإحصاءات دفع رئيسة الوزراء تريزا ماي، الغارقة في أزمة مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي التي تهدد مصيرها السياسي لأن تعلن حالة الطوارئ داخل الهيئة البرلمانية لحزب المحافظين الحاكم. وبدأت حملة ضغط في البرلمان، بتأييد زعيم المعارضة العمالية جيرمي كوربن وزعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين فينس كابل، لحمل رئيس مجلس العموم على أن يعطي أولوية لإنشاء نظام صارم للغاية يضمن محاسبة أي متحرش وتردع أي متحرش محتمل من التفكير في ارتكاب هذه الجريمة في المجلس. وبسرعة لافتة للنظر، أعلنت الهيئة البرلمانية لحزب المحافظين أنها سوف تشكل فريقا مهمته توفير الحماية اللازمة لتشجيع أي امرأة تعرضت للتحرش أو المضايقة الجنسية على التقدم بشكواها. وتعهدت بأن تحيل أي شكوى يثبت جديتها إلى الشرطة للقضاء على «مناخ التحرش المسموم» في البرلمان. وتحت الضغوط، خاصة النسائية، تتجه ماي لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، ما يعني بأن الملف لن يغلق قريبا، خاصة ان الفضيحة تقترب من مكتبها. فبينما آثر فالون الانسحاب يأمل أن يكون هادئا، لا يزال زميله داميان جرين، نائب رئيس الوزراء وحليف ماي القوي، يصارع في مواجهة ادعاءات مماثلة يتعين عليه ان يرد عليها في تحقيق أمرت ماي بفتحه فورا. وفي خارج البرلمان، تستغل جمعيات نسوية المناخ الحالي المعبأ بالكثير من برامج ومشروعات تمكين المرأة في مختلف قطاعات المجتمع، لتشجيع المتحرش بهن والمعتدى عليهن أيا يكن شكل الاعتداء على الإبلاغ عما يحدث معهن أيا يكن الفاعل.