أحيانا نعيش حياتنا دون أن ندرك حقيقة الحياة، ونغرق فى تفاصيل كثيرة تنسينا المعنى. وقضية الإنسان تبدأ من تشكيل شخصيته وهويته وملامح وجوده، قصة لا يكتبها الإنسان بمفرده بل يشارك المجتمع الصغير والكبير بكل مفرداته فى تشكيل إنسانيتنا، وبقدر ما يكون هناك تأثير قوى من المجتمع المحيط بقدر ما يكون التشكيل. ونحن فى بيوتنا ننظر إلى التعليم هو المقرر الدراسى فنسعى أن يحفظ أولادنا الكتاب المدرسي، ولكن هذا ليس تعليماً بل تلقين. ونعانى الآن فقرا فى الهوية وانحدارا فى الإنسانية، وننظر إلى العصور الماضية ونقول كان فى عصورنا أدباء كثيرون وفنانون وسياسيون وفلاسفة فلماذا نعانى الآن حالة الفقر الإنساني؟ وندرة المواهب هذا جاء نتيجة تربية خاطئة فى البيوت والمدارس والجامعات، وانحسار دور الإعلام والثقافة والفن، وفقدان رؤية بناء الإنسان المصري. فإذا سألنا الكثير من شبابنا من تكون؟ قد لا يستطيع أن يجيب، بل نادرا ما تجد منهم من يعرف ماذا فعل أجدادنا وأهمية حضارتهم. فقد تمزعت الهوية بين هوية دينية وأقلية وثقافات مدفوعة الأجر وثقافات غربية، دون أن يدرك ماذا تعنى الهوية المصرية التى كانت مميزة عبر التاريخ، ولم يستطع أى من الغزاة سحق هويتنا بل كان كل من عاش فى وسطنا يصير مصريا فالبطالمة والرومان والعرب الذين عاشوا فى وسطنا صاروا مصريين. ولكن نستطيع أن نرصد الآن بعض تشويه فى الهوية إما قصدا أو جهلا أو تجاهلا. فالآباء والأمهات هم المسئولون عن الأساس الذى تبنى عليه الشخصية الإنسانية حتى وإن كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية فيها خلل. فقد جاء يوما إلى إحدى الأمهات ورقة من مدرسة ابنها بعد ثلاثة أشهر فقط فى الدراسة أن ابنها ضعيف العقل ولا فائدة من تعليمه فهو كثير النسيان مشتت لذلك طرد من المدرسة ورجع إلى أمه بهذه الرسالة وحين قرأتها الأم أخذت هى تعلمه. وكانت أمه تقوم بتدريسه بجانب أنه عمل فى بيع الجرائد فى محطات القطار. وفى سن الثانية عشرة أصيب بصمم جزئى لأن عمال القطارات كانوا يجرونه من أذنه بعنف. ولكن كانت الأم هى البيئة التعويضية التى جعلت من هذا الطفل هو أديسون من أعظم علماء العصر الحديث (1847- 1931) وقد سجل ألفا ومائتى اختراع. وما نراه فى أيامنا من ضعف البناء الإنسانى راجع إلى عدم اهتمامنا بالإنسان نفسه فقد نكون مهتمين بوضع خطط اقتصادية ومشاريع كبيرة وهذا رائع ومهم ولكن نريد خطة متكاملة لبناء الإنسان وتثقيفه وتنويره وبث الهوية المصرية فى كل جوانب التربية. المفكر الفرنسى جان جاك روسو (1712) نال جائزة على بحث كان هو نقطة الانطلاق لفكره وفلسفته كان موضوعه «الإنسان صالح بطبيعته والمؤسسات الاجتماعية هى التى أفسدته». وذلك لأن روسو نفسه كان ضحية المؤسسات التى لم تبن الإنسان فقد توفيت أمه وكان أبوه قاسياً وقد سلمه إلى حفار ليتعلم مهنته وكان قاسياً حتى هرب منه. وبالرغم من نجاحه فيما بعد إلا أن هذه المرحلة من تكوين شخصيته تركت فيه علامة نفسية حتى إنه أصيب بالشيزوفرينيا. وكم من أطفال يولدون كل يوم ولم يجدوا سوى القساوة فى التربية أو عدم الحب أو يتركوا فريسة لمعلمين بلا خبرة تربوية وبيوت كل ما فيها جدران وطعام فيخرج الطفل مشوه الملامح الداخلية وإما يعيش ولا يدرك لماذا يعيش أو تتلقفه أفكار منحرفة تحوله إلى كائن مسخ ينفذ إرادة شريرة فى تحطيم المجتمع. فحين تخرج الشجرة بلا راع قد تكون ثمارها مريضة أو ينبت فيها الشوك ليخنقها لأنها لم تجد الأيدى التى ترعى وجودها. والموضوع لا يتوقف عن الانحراف الشخصى بل قد تكون آثاره مدمرة لكل المجتمع فيقول موسولينى زعيم إيطاليا فى الحرب العالمية الثانية فى مذكراته إنه كان يعيش طفولة يائسة فقد كان أبوه رجلا بلا قلب يعود آخر الليل مخموراً يظل يضربه وأمه بطريقة وحشية. وذات يوم أراد أن يأخذ موقفا من استبداده وشراسته فوقف خلف الباب ينتظر مجيئه ليلاً ممسكاً بعصاة ليضرب بها أباه حين يأتي، وحين فتح الأب الباب وقعت عيناه على ابنه موسولينى وهو ممسكا بالعصا فقال له بلهجة خشنة: ما هذا الذى فى يدك؟ فقال له: إنها العصا التى أحضرتها كى تضربنى بها دون أن تتعب فى البحث عنها. فقال له الأب: لا اتركها لا أريد ضربك الآن. ونرى ما الذى حدث بعد، صار هذا الطفل موسولينى أحد الذين سفكوا الدماء فى الحروب بوحشية قاسية. إننا نعانى كل يوم من أشكال غريبة على مجتمعنا دون أن يفكر المجتمع بمؤسساته عن أسباب هذه الصور وكيف صار أولادنا بهذه الصورة. إننا نتغنى دائماً بأننا شعب صاحب حضارة آلاف السنين ولكن ما يحدث الآن لا يمت للحضارة بصلة، ونردد كثيرا أننا شعب متدين بطبعه بينما نرى الانحرافات كثيرة والآداب العامة أصبحت على المحك، يخرج من الجامعة مئات الآلاف كل سنة، بينما لا نرى عالما واحدا كل عشر سنوات. إننا نحتاج إلى وقفة حقيقية ودعوة لكل علماء الاجتماع لتحديد هوية الشخصية المصرية وكيف يتم تحقيقها عبر أجهزة الدولة من تعليم وثقافة وفكر وعمل توعية مجتمعية للأسرة لكيفية التعامل والتربية لأولادنا. أشعر بأننا نعيش مرحلة مهمة تتغير فيها صور كثيرة تجعل مصر تعود إلى حالة الاستنارة والتنوير. نحتاج إلى أن يعود للمجتمع روح حضارة مصر وتأكيد هويتنا المصرية فى الثقافة والفكر والإعلام والتربية، فتحدث حالة الحراك الفكرى بين المثقفين، فنرى شعراء وفلاسفة ومفكرين يستطيعون أن يعيدوا الهوية المصرية للمجتمع الذى صار يعانى التشتت والتيه وضعف الانتماء لثقافة أو روح خاصة بمصر التى لها سمات أثرت فى عقل ووجدان كل المنطقة وقادت شعوبا للحرية وعقولا للاستنارة. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس