تكونت شخصية الإنسان المصرى عبر التاريخ، وتراكمت فيها خبرات ومعارف وثقافات كثيرة، حيث انفتح وعى الإنسان المصرى على عشرات الثقافات وأنماط المعيشة وخبرات الشعوب، التى عبرت على مصر، أو وفدت إليها، أو اجتازت أرضها الكريمة، نتيجة لكونها محل التقاء القارات، ومجمعا للحضارات، مع عقلية مصرية ناقدة، عندها وعى عميق بذاتها، واعتزاز كبير بخصوصيتها، جعلها تنظر إلى كل تلك الروافد، فتنتقى منها ما تشاء، حتى تكونت مصر وشخصية مصر من خلال سياق طويل وحافل، شهدت فيه تعاقب الدول، وتداول الحضارات، ونزول الزائرين، وعبور التجار. قال الرحالة محمد بن عبد الله ابن بطوطة فى رحلته المسماة: (تحفة النظار، فى غرائب الأمصار): (ثم وصلت إلى مدينة مصر، وهى أم البلاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة، المتناهية فى كثرة العمارة، المتناهية بالحسن والنضارة، ومجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها، شبابها يجد على طول العهد، قهرت قاهرتها الأمم، وتملكت ملوكها نواصى العرب والعجم). فهذه لمحة عابرة سجلتها لنا عين رجل رحالة خبير بالعمران البشري، عن صورة مصر وعمق حضارتها وضخامة عمرانها، فى القرن السادس الهجري، وظلت هذه المكونات وهذه الصورة تزداد اتساعا، حتى إذا ما قفزنا قرنين من الزمان بعد ابن بطوطة وجدنا ابن خلدون يقول: (فانتقلت إلى القاهرة أول ذى القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسى الملك. تلوح القصورُ والأواوينُ فى جوِّه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويجبى إليهم الثمرات والخيرات ثجه، ومررت فى سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم، وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وعن مداه فى العمران، واتساع الأحوال.). وظلت هذه الصورة الواسعة الحافلة الحاشدة المزدحمة الهائلة لمصر تزداد اتساعا، مع أحداث تاريخية متلاحقة، لكن بلدا بهذا الثقل وبهذا الحجم وبهذه المكونات، سيكون له أثر نفسى كبير على نفسية أبنائه الذين يرون فى وطنهم هذا الاتساع، وهذه المكانة فى العالم، وكل هذا مؤثر بلا شك فى صناعة شخصية الإنسان المصري، الذى يكون على وعى وإدراك لقدر هذا البلد العظيم. ولقد تفردت بمصر بمقوماتها، ومكوناتها، ومعالمها، ومكانها الفريد، والحركة الحافلة للتاريخ، والتى تجرى على أرضها، وكل ذلك له أثر وانعكاس على نفسية الإنسان المصرى وشخصيته، حتى قال العبقرى جمال حمدان فى كتابه العظيم: (شخصية مصر): (لمصر أطول تاريخ سكانى معروف أو مسجل)، إلى أن يقول: (وذلك بحق يجعل مصر صاحبة أطول تاريخ تجربة سكانية فى العالم، بل معمل تجارب ديموغرافى تاريخي، ولكنه حي، سابق غير مسبوق، ولا مثيل له فى عالم أو علم السكان على الأرجح).وهذه الكثرة أو الثروة السكانية الهائلة لمصر عبر تاريخها تعنى أنها غنية بكمية هائلة من العقول والخبرات والشخصيات والأطروحات، مما يمثل ثراء كبيرا، واتساعا فى الرؤية، وتضافرا للخبرة، وهذا من شأنه أن يصنع حركة للمجتمع، تزداد ثراء بمقدار الكثرة والثراء فى سكانها. كل ذلك مع ما تراقبه العقلية المصرية من ثقافة العالم، وعلومه، ومعارفه، وآدابه، وحركة الفكر فيه، فإذا بهذه الأرض المصرية الطاهرة، وثروتها البشرية، قد أضافت إلى هذا المكان تألقا وإبداعا، وانصهرت فصنعت شخصية مصرية متفردة. إنها شخصية قومية مصرية، متميزة إلى حد أو آخر، لها خصائصها، وملامحها، وسماتها، وقسماتها المحددة بدرجة أو بأخرى، والتى يمكن التعرف عليها وقياسها بقدر أو بآخر من الدقة. ولن يستطيع أحد أن يعرف قيمة مصر على الحقيقة إلا من استعاد هذه الذاكرة، وفتح صفحات هذا التراكم، ورأى الأثر العميق والممتد والمنير الذى قدمته مصر إلى البشرية، وكيف أنها بؤرة مركزية شغلت الدنيا، وارتبطت بها أحداث التاريخ فى مختلف مراحله، وقدمت للإنسانية عقولا عبقرية فى نظم الإدارة، وفى علوم الهندسة والعمارة، وفى علوم الشرع الشريف، وفى الآداب والحكمة، وتركت بصمة لها فى أعماق آسيا، وفى قلب أوروبا، وفى العمق الإفريقى الكريم. قال الدكتور حسين مؤنس: (المصريون يقولون: «مصر أم الدنيا»، حقيقة كبرى، يقولونها دون أن يدركوا مغزاها، نعم، أم الدنيا، بل هى الدنيا، ولو عرف كل مصرى قدر مصر لما كفاه أن يعمل لها بيديه وأسنانه وعقله عشرين ساعة فى اليوم، بهذا فقط يكون المصرى جديرا بمصر). واستعادة الذاكرة على هذا النحو شديد الأهمية فى وعى الإنسان المصرى بذاته وكينونته، وفى إدراكه لقيمة نفسه، وفى مقدار ما وهبه الله من الخصائص والمواهب. وهذا المعنى هو الذى ينبغى أن يسرى إلى مناهج التعليم فى مدارسنا وجامعاتنا، وأن يكون أحد القضايا الكبرى فى خطابنا الديني، وأن يكون هو الشغل الشاغل لنا ولمؤسساتنا وسائر المفكرين المهمومين بهم هذا الوطن، حتى يستعيد الإنسان المصرى ثقته فى ذاته، وثقته فى وطنه، وثقته فى مؤسسات وطنه. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى