كان يبكى وهو يرى آخر شمس تسطع على أرض المحروسة. فوق سفينته تحلّق النوارس كما تحلّق الأغصان فوق جذع المقطوع. وسط غيوم ورياح عاصفة، خلع قلبه وأوتاده ورحل من أرضها عام 1957.. قسراً سلك طريقاً إلى منفاه الفرنسي. وغاب الوطن من أمام عينيه، ولم يبق غير ظلّه محفوراً على حائط القلب. كان الشاعر «إدمون جابيس» يحدق فى الأمواج الهائجه، متأملا أيامه الماضية فى مصر بعدما شاءت الظروف أن يغادرها بتهمة أنه يهودي!. يهرب من نفسه إليها ويبدد الوحشة بالكتابة. ولم تخطر على باله فكرة الذهاب إلى إسرائيل، لإيمانه أن الشاعر يجب أن يبعد أى دعوات عنصرية ذات صبغة دينية أوعرقية. ولأنه كان يردد بصدق: «وطنى هو الشعر». وتتقاذفه الأسئلة على عتبات الواقع والمحال : من جعل الطير فى عشه غريب؟! كيف صارت المزامير حجارة يُرجّم بها؟ كيف ضاقت به بلاد كانت تغزل الحب له ثياب؟ أبسبب ديانته يموت غريباً فى منافى الغياب؟! يحاول «جابيس» أن يخون أسانيد التاريخ ويشطب الزمن، لكن بلا جدوي، باءت كل محاولاته بالفشل. يقرأ عمراً تناثر بين الحدود، منذ ولد فى القاهرة فى 16 إبريل 1912 إلى أن أُجبر على مغادرتها فى الخامسة والأربعين من عمره. أيام تتلوها أيام حتى تاه حلمه فى مدارج التيه. كلما أصغى للأضواء فى روحه، تبعث فى نفسه لهفّة الشوق لشوارع وأزقة استوطنتها أسرته فى حارة اليهود، والموسكي، وجاردن سيتي. كلما آوى للتذكار تأتيه صورته حين كان طفلاً يلاعب الظلال ويختلق البطولات فى مدرسة الفرير (كوليج سان جان باتيست) ومدرسة الليسيه. مشاهد كانت له ماءً وظلّاً كلما امتدت به الصحراء. يقول: «سافرت إلى فرنسا لأنها بلد اللغة التى أتقنها.. وتركت بلدي، وكان على أن أبحث عن صحراء أخري، غير أننى لم أجد صحرائى أبداً. الصحراء أملى الكبير فى حياتى كلها. فى القاهرة، كنت أسير مسافات طويلة فى الصحراء، ولوقت لا أعرف له أى حد. أعلاى السماء زرقاء وأمامى الصحراء ممتدة. هناك فى الصحراء يبدو الهدوء بلا نهاية، والصمت ملهماً، وقد ساعدانى فى الكتابة، وبعدما تركت مصر تقت طويلاً إلى تلك المشاعر والحالات». أيّ يأس عميق وأى صدمة حين تم تأميم المصرف الذى كانت تمتلكه عائلته! لم يشفع للشاعر اليهودى كل مواقفه الوطنية، من تقديم منحة مالية ضخمة للجيش المصرى المشارك فى حرب فلسطين 1948، أو تسلمه عام 1955 منصب نائب رئيس سوق مال (بورصة) القاهرة. لم يشفع له كونه واحداً من أهم الأدباء المصريين اليهود الذين تصدّوا للتيار الصهيونى الداعى للهجرة إلى إسرائيل، وإلى أن توفى ظلّ معروفاً بمواقفه المعارضة للصهيونية. تحت وطأة الغربة وهجر الوطن أحس الحالم بالمتاهة.. فوجد ضآلته فى الصحراء: أكتب عن الصحراء عن النور الساطع الذى أوقف المطر لم يبقَ هُناك سوى الرَّمل حيث أمشي.. فالصحراء أرضى وسفرى وتيهي يا أيها المنسى فى عرض الطريق، أمر الزمان بنفيّك! قرر الفارس أن يحيا.. فعل إرادة.. لا فعل هزيمة. ثورة الرفض فى صدره لكل التحديات التى فرضت عليه دفعته لإثبات ذاته بمزامير حب يجرى سحرها فى المسامع. إحقاقاً للحق، لم يكن «جابيس» الوحيد ضحية التهميش من قبل الأيديولوجيا الناصرية ومن بعدها الأصولية. فقد تعرض لنفس مصيره مجموعة من الشعراء الفرانكوفونيين المصريين، مثل «جويس منصور، وجورج حنين، وأحمد راسم، ومارى كفاديا، وحورس شنودة». اسم «إدمون جابيس» سبقه إلى فرنسا وهو يعيش فى مصر، فقد منحته الحكومة الفرنسية عام 1952 وسام الشرف كأديب ومثقف مصرى كبير. وهناك لمع فى سماء الأدب مما جعله جديراً بالحصول على الجنسية الفرنسية. وتوالت أعماله الشعرية والنثرية وترجمت نصوص كثيرة له إلى لغات عدة. غير أن جنسيته الجديدة لم تجعل منفاه جنة، فقد عانى الفقر واضطر إلى العمل بمهن عادية ليوفّر لقمة العيش. غاب «السريالى الشرقى» كما كانوا يسمونه. ولم يُذكر اسمه إلّا نادراً فى كلام عن السرياليين المصريين وعن الشاعر جورج حنين صديقه الحميم الذى أسس معه المجلة الشهيرة «حصة الرمل» التى استقطبت أقلام المصريين الفرنكوفونيين وبعض الفرنسيين. «جابيس» الذى ظلّ غريباً حتى وفاته، أول ما قدمه فى منفاه الباريسى كتاب «أشيّد منزلى» عام 1959، محاولاً فيه مغادرة ذكريات لا تغادره أبداً. ثم أصدر «كتاب الأسئلة» وهو سبعة أجزاء قدمها تباعاً بين 1963 و1976، وطرح فيه قلقه ومخاوفه من الهُويّة اليهودية العصيّة على التقبّل من قبل كثيرين حول العالم، وقد شكلت روح العداء للسامية التى لقيها فى فرنسا آنذاك صدمة له: «نتألم جميعاً من فراغ فى الهوية نحاول أن نملأه يائسين. فى هذا اليأس تكمن هويتنا». وظل حلم العودة إلى المحروسة يراوده، ويلاحظ قراؤه ما لديه من احساس بالاغتراب، حتى بات يُعرف بشاعر التيه والفراغ. ووصفه النقاد ب «شاعر المنفى»، بعدما عجز عن نسيان مصر التى بدا تأثيرها عظيما على كتاباته. منحه المنفى القدرة على العودة إلى أصوله المصرية ترسيخاً لهوية تبحث عن نفسها باستمرار. راح «جابيس» المُخلص يرسم وجهها فى جبين الحلم ويسجّل تفاصيل عشقه لها، ويكتب فيها أحد عشر ديواناً بالفرنسية، أبرزها ديوان «أغانٍ لوجبة الشعير» ويخاطبها فيه ب: ايا وطنى الأخير وحلمى الكبير.. بك التقيت مع الحياة فكيف أحيا فى سواك! إننا فى رحلة الأقدار نسرى دون اختيار، يرسم الغيب لنا موعدنا. أحنّ فأقتات ذكرى اللّقاء لعلّى بذكراه أقتطف الصفو من وهمه وأخدع بالوهم جوع الحنين.