ترسَّخ فى أذهان الكثيرين أن لفظة «مربّع» تختص فقط بفن «الواو»، وهذا غير صحيح - على إطلاقه - فالمربع موجود فى الزجل العادي، وكذلك فى «فن الواو»، ولدينا الموّال الرباعي، والرباعية التى أجادها «صلاح جاهين»، وهناك «فن الدوبيت» الذى يُصاغ على وزن بحر شعري فارسى أدخله شعراء من المولّدين فى العصر العباسي، ولدينا أيضا مربع «فن النميم»، ومربع «العدّودة»، و«فن القوما»، وأيضا «فن الكان وكان»!! .................................................... ما يعنى أن الإبداع الشعرى الشعبى منذ الماضى البعيد عرف الأشكال التربيعية، ونظام التربيع فى «القوالة»، وأقصد ب«القوالة» قول هذا الشعر على نظام المقطّعات فى قالب التربيع، ويطلق على هذه المقطعات كلمة المربعات، وتجليَ هذا المعمار البنائى التربيعى فى عدة أنواع قولية، بينها تباينات تخص من يتولون إبداع هذا النوع من النظم وتخص الأسلوب الأدائي، والغرض الذى قيلت فيه، وأيضا طرائق تشكيلها، من حيث الوزن الشعري، وطريقة التقفية، بل ومكان الإبداع، والزمان الذي عاصر هذه «القوالة» الإبداعية. ولكل شكل من هذه الأشكال الشعرية الرباعية مصطلح خاص به أو دال عليه، ونستطيع أن نقول إنه لدينا العديد من هذه الأشكال التى انضوت تحت «مظلة التربيع»، منها المربع فى الزجل بمفهومه المعروف، وأيضا «المربع» هو صياغة فى كل من «فن الواو»، و«الموال الرباعي» المسمى «البغدادى والدوبيت والنميم والعدّودة والقوما والمسدار»، وغيرها ونذكر نماذج للتدليل على ما قلناه، بشأن الأشكال الشعرية التى تنضوى تحت مظلة التربيع الواسعة، وهذه النماذج والأمثلة تبين الفروق بين الفنون التربيعية المختلفة أولاً: المربع فى الزجل يصاغ من أى بحر شعري، لكنه يتميز بطريقة التقفية الخاصة به، وفيه تتفق قوافى الأشطر الأول والثانى والثالث فى كل مربع، ثم يأتي الشطر الرابع بقافية مخالفة، شرط أن تظل تلك القافية المخالفة قفلة كل مربع، وتسمى «عامود القصيدة». فمثلا يقول «بيرم التونسي» مخاطباً «غاندي»: السلام ليك والسلامة من هنا ليوم القيامة يللى أظهرت الكرامة بعد عهد المرسلين الانجليز عايشين فى لذّة عندهم أسطول وعزّة وانت تضربهم بمعزة سودة بنت اربع سنين وواضح هنا أن قفلة «عهد المرسلين» تشبه قفلة «اربع سنين»، بينما قوافى الأشطر الثلاثة فى المربع الأول ليست ذات قوافى الأشطر الثلاثة فى المربع الثاني. ثانيا: والمربع فى الموال البغدادي، والموال بكل أشكاله، الرباعى والخماسى والسداسى والسباعى يصاغ دائما على مشطور البحر البسيط، والبحر البسيط، ومفتاحه يقول: «إن البسيط لديه يبسط الأملُ.. مستفعلن فاعلن مستفعلن فعل». مثل قصيدة أمير الشعراء «أحمد شوقي»: ريم على القاع بين البان والعلم..أحلّ سفك دمى فى الأشهر الحُرُمِ» وفى الموال البغدادى تتفق قوافى الأشطر الأربعة، مثلما جاءفى الموال العراقى الذى يقول: طرقت باب الخبا قالت من الطارق.. فقلت مفتون لاناهب ولا سارق ْ تبسّمت لاح لى من ثغرها بارق.. رجعت حيران فى بحور أدمعى غارقْ ولا يخفى علينا أن هذا الموال، من النوع المزنّم (وقد يسمى المهجن أو المزبلح)، فالشطران الأول والثالث معربان، والثانى والرابع ملحونان، أى ليسا معربين، وينسب الموال البغدادي فى ابتداعه إلى أهل «واسط»، وهى مدينة بناها «الحجاج الثقفي» بين البصرة والكوفة، وهناك شكل آخر لتقفية الموال الرباعي، تكون فيه قافية الشطرة الثالثة حرة، وقوافى الشطرات الأولى والثانية والرابعة متوافقة، وبينها جناس لغوي. وفى هذا الموال قلت: بخت الخسيس اتعدل لما الزمن غلّاه.. ورخّص ابن الأصول وفْ قدرتُه غلّاه فردْت قلْعي عشان ارحل خانتنى الريح.. ودرسْت جُرنى طلع تِبْنُه بلا غلّاه وهنا الموال ليس مزنّما، فهو كله باللهجة العامية التى لم تخالطها الفصحي. ثالثا: والمربع فى «فن الدوبيت» تتفق قوافى أشطره الأربعة، وذكرنا من قبل أنه يصاغ على بحر شعرى فارسي، أدخله كبار الشعراء المولّدين، (فكلمة «دو» بالفارسية تعنى اثنين، و«دوبيت» بيتان) ومنه المربع الذى يقول: يا غُصن مكللاً بالذهب.. أفديك من الردي بأمّي وأبي إن كنت أسأت فى هواكم أدبى فالعصمة لا تكون إلا لنبي رابعا: والمربع فى الرباعية، التي برع فى إبداعها صلاح جاهين، فهى تصاغ على وزن البحر السريع ومفتاحه هو: (بحر سريع ما له ساحلُ.. مستفعلن مستفعلن فاعلُ) وفيها يكون شطرها الثالث حر القافية، أى لا يتفق مع أشطرها الأول والثانى والرابع فى التقفية، ويقول صلاح جاهين فى واحدة من رباعياته: ليه يا حبيبتى ما بينّا دايما سفر دا البعد ذنب كبير لا يغتفر ليه يا حبيبتى ما بينّا دايما بحور أعدّى بحر ألاقى غيره اتحفر خامسا: والمربع فى العدّودة يصاغ من أى بحر شعرى لكن طريقة التقفية فى العدّودة تتبع نظام «المزدوج»، أى أن تكون قافية الشطر الثانى فى البيت تشابه قافية الشطر الأول، وهذا النظام صيغت عليه كل أبيات ألفيّة ابن مالك ومنها (كلامنا لفظ مفيد كاستقم.. اسم وفعل ثم حرف الكلم)، وأرجوزة «ذات الأمثال» للشاعر العباسى «أبى العتاهية» مثل: إن الشباب والفراغ والجِدة.. مفسدة للمرء أى مفسدة. والعديد أو العدّيد أو التعديد شبيه الرثاء فى الشعر العربي، وهو فن لا يقوله إلا النسوة، وهو باعتقادى امتداد لشعر الخنساء وبكائياتها. وتقول العدّودة: بحرى البلد ساعي معاه ورقة.. يا واد سلام ولّا خبر غربة بحرى البلد ساعى معاهِ جواب.. يا واد سلام ولّا خبر غِيّاب سادسا: والمربع فى «فن الواو» أشهر شيء ضمن قالب التربيع على الإطلاق، لدرجة أننا عندما نسمع كلمة «مربع» يتبادر إلى الذهن «فن الواو» لا غير.. و «فن الواو» هو فن تراثي، ابتدعه أناس أميون يجهلون القراءة والكتابة، وهو فن ذو «جوّ» شعبى خالص، فالألفاظ من البيئة بسيطة وعميقة المعني، وهو فن شديد الخصوصية ومرتبط بالبيئة الصعيدية أكثر من غيرها. ويجب على القوّال أن يأخذ من الناس ويعطيهم بمعنى أن يتحدث بلغتهم، فسبب ابتداع فن الواو هو مخاطبة البسطاء من الناس.. وهو مختلف تماما عن كل الفنون التربيعية، فى اختيار المفردة المستخدمة فى نظمه، فاللغة فيه بسيطة لكنها دالّة وموحية، والمربع يجب أن يكون بسيطا منسابا وخاليًا من المفردات الدخيلة، وألا تكون القوافى ضعيفة أو مقحمة، وفى ذلك تكمن عبقرية هذا الفن ذى الأسلوب الأخاذ، ويصاغ على وزن البحر المجتث، الذى لا يأتى إلا مجزوءا، وتفعيلاته الشعرية (مستفعلن فاعلاتن) لكل شطر من أشطر المربع، وطريقة التقفية فيه تتشابه قافية الشطر الأول مع قافية الشطر الثالث، وقافية الشطر الثانى مع قافية الشطر الرابع، وتتحلى قوافيه بالجناس الكامل أو الناقص حسب الإمكانية الفنية للقوّال - الشاعر- وحصيلته اللغوية!. يقول المربع الذى ينسب لابن عروس: (لابدّ من يوم معلوم تتردّ فيه المظالم أبيض على كل مظلوم أسود على كل ظالم ويقول ابن عروس أيضا: مسكين من يطبخ الفاس ويريد مرق من حديده مسكين من يصحب الناس ويريد من لا يريده ويقول كاتب هذه السطور: دا الرزق والعمر مقدور بس الرجالة مواقف ما دمت للموت مندور فإن مت موت وانت واقف وأقول أيضا: عينى رأت سرب غزلان فيهم غزالة شريدة والقلب لما اتنغز لان شاور وقال لى شاريده فمتى لا يكون المربع من فن الواو؟ حين يفتقد شروط «قوالة» مبتدعى «فن الواو»، كأن يكون على موسيقى ما سبق قوله، أى يكون البحر الشعرى للمربع مجزوءا من بحر المجتثّ بمفهومنا العلمي، وثانيهما أن تتفق قافية الشطر الثالث أو تتشابه مع قافية الشطر الأول، وقافية الشطر الرابع تتفق أو تتشابه مع قافية الشطر الثاني، فضلًا عن استخدام الجناسات الكاملة أو الناقصة التى تتحلى بها القوافى المتشابهة، وكذلك اختيار المفردات التى تكون بسيطة وموحية وأن يسود الجو التراثى فى الصياغة!!. وقد يشاكل المربع ويشابه البناء المعمارى ل فن الواو»، وهو ليس من «فن الوا و»، مثلما يقول أمير الشعراء «أحمد شوقي»: الفجر شقشق وفاض على سواد الخميلة لمح كلمح البياض من العيون الكحيلة فرغم اقتراب الوزن الشعرى من وزن فن الواو، ورغم أن التقفية تحقق الشرط المطلوب لفن الواو، لكن الشاعر لم يكن يقصد كتابة فن الواو، فجوّ المربع ليس هو الجو الشعبى المناسب، لذلك لم يختر له المفردات المناسبة، فبالرغم من أن النظم بالعامية، لكنها عامية لم تصدر عن شعور عامي، ووجدان شعبي، بمقدار ما هى صدًى لثقافة الشاعر الفصحي، وتصوره الشعرى المأثور - كما يرى جلال العشري- فالشعر هنا لم يصدر عن تجربة حية أو معايشة حقيقية، فالمفردات كلها فصحى لا تجرى على لسان الشعراء الشعبيين ولا جمهورهم، وإن تسنى لأحد أن يتماشى مع هذا القول، فسيصدمه تركيب الصورة، لعدم بساطتها من جهة، ومن الجهة الأخرى للخلل البيّن فى رسم الصورة الشعرية. ويكمل جلال العشري: «وإلا فكيف يمكن للفجر بعد أن شقشق ثم فاض حتى ملأ الدنيا نورا، أن يعود فيلمح، مجرد يلمح، وكلمح البياض، أى لمح الخيط الأبيض من سواد الفجر!!، فالصورة هنا زائفة لأن «اللمحان» لا يتأتى إلا فى العتمة، وإنما الرؤية هى التى تتم فى وضح النهار. والذى جعل الشاعر يزل فى هذا الوصف ويخطئ فى رسم هذه الصورة أنه لم يصدر عن رؤية ذاتية حية، لكنه صدر عن رنين اللفظ الذى وعته أذنه، وكما صاغه على نهج القدامي. أيضا يقول «محمد عثمان جلال»، مخاطبا رئيس الوزراء رياض باشا - فى عصره - معاتبا إياه على تأخر ترقيته: «الخير على الناس عمَّ وفاض وكل إنسان استكفي.. وبس أنا يا عمَّ رياض وقعت من قعر القفّة». وفى هذا المربع نلاحظ أن نظام التقفية يشابه نظام «فن الواو»، لكن هذا المربع ليس مصاغا على وزن مجزوء البحر المجتث. كما نجد بيرم التونسى يقول: إن كنت تطلب رضا الله يجعل لك الناس عبيدك وإن كنت تطلب رضا الناس أقلّهم يبقى سيدك هنا البحر الشعرى مطابق لبحر «فن الواو»، لكن نظام التقفية غير مطابق له، إذ أن لفظ «الناس» غير مشابه للفظ الجلالة «الله». وعليه فإن قالب التربيع لم يكن خاصا ب «فن الواو» فقط، بل شمل عدة أشكال قولية، أحدها «فن الواو»، كما نخلص إلى أن كل «فن واو»، مربع - أى ضمن قالب التربيع- لكن ليس كل مربع «فن واو»!.