طرح إشكالية تجديد الخطاب الدينى المسيحى، الآن وفى مصر، يحتاج إلى كثير من الموضوعية والتريث، فهو أمر يراه البعض، بارتياب، تنويعة على سياسة المواءمات والتوازنات، فمادام هناك إلحاح على مراجعة الخطاب الدينى الإسلامى الآنى فلماذا الصمت على نظيره المسيحى، لينتهى الأمر إلى حالة من «الشيوع» التى يتوه معها سعى إعادة تشكيل الذهنية العامة باتجاه القبول بالدولة المدنية التى تتأسس على التعددية وقبول الإختلاف، والتفاعل المجتمعى على أرضية القانون الوضعى بقواعده العامة والمجردة والملزمة. ويرى البعض الدعوة لتجديد الخطاب المسيحى (القبطى) التفافياً سياسياً لتخفيف الضغط المتواتر الذى يشهده نظيره الإسلامى، وغير بعيد تقف نظريات المؤامرة والتوجيهات، وتتلقفنا دوامات المقارنات بين طبيعتى الخطابين، فى مواجهة استحضار التاريخ وعصور اوروبا الوسطى وخبرات سطوة الكنيسة هناك آنذاك، لينتهى الأمر متوازياً بتبرير بقاء الحال على ما هو عليه. وقد تجد الرؤيتان ما يدعمهما مادامت المنطلقات سياسية، فى مجتمع مأزوم بفعل التراجع المعرفى والتوجس الذى يسيطر على العلاقات البينية فيه، لكنهما لا يملكان نفى أن التجديد أمر تفرضه المتغيرات التى نعيشها، بامتداد خارطة العالم، لعل ابرزها الإنتقال من الثورة الصناعية وتداعياتها، إلى الثورة المعلوماتية بتقنيات التواصل المتلاحقة والمتسارعة، والتى خرجت بالمعرفة من دائرة سيطرة المؤسسات الأبوية التقليدية العامة والدينية، وهى حالة عرفها الغرب بشكل جزئى مع الإنتقال من المجتمع الزراعى التقليدى إلى ما بعد اختراع آلة البخار فاتحة الثورةالصناعية، وقد شهد الغرب قبلها وبعدها حدثين شكَّلا الذهنية الغربية كل فى اتجاه، فى دائرة الخطاب المسيحى، حركة الإصلاح الدينى، القرن 16، رغم ارتباكات موقفها من الطبقات الكادحة، والمجمع الفاتيكانى الثانى، (1964 1966)، والذى شكل نقلة نوعية اعادت الحياة للكنيسة الكاثوليكية بعد موجات متصادمة مع مدارس الفلسفة الحديثة وما انتجته من موجات مناوئة، ابرزها الوجودية والإلحاد، لكن حركة الإصلاح والمجمع الفاتيكانى الثانى أثرا بشكل ايجابى فى تطور رؤية الكنيسة لدورها ورسالتها وفى تشابكاتها مع المجتمع والإنسان. فى مصر كانت الخريطة الدينية والمجتمعية تشهد تحولات حادة بامتداد التاريخ، وقد قبلت المسيحية وتحولت أغلبيتها إليها، بل وصارت كنيستها واحدة من المراكز اللاهوتية الكبرى فى العالم المسيحى، وتقبل مصر الإسلام وتتحول أغلبيتها إليه، وتصير بأزهرها واحدة من أهم المراكز الفقهية فى العالم الإسلامى، على الرغم من أنها فى الحالتين كانت تحت الإحتلال، وقد تداول على حكمها، حكام وأنظمة من خارجها، لتقدم نموذجاً فريداً لقدرة المصريين على التميز والمشاركة فى مسار الحضارة رغم هذا. لكنها فى الحالتين، ايضاً، تشهد تراجعاً نتج عن فعل الإنقطاع المعرفى، ثلاث مرات على الأقل، أولاها حين انتقلت بلسانها من اليونانية إلى القبطية، عقب صراعات القرن الخامس على خلفية قومية، وثانيها حين انتقلت من القبطية إلى العربية بفعل تعسف الحكام فيما بين القرنين العاشر والثانى عشر، على خلفية سياسية، وثالثها حين ابتليت بالحكم العثمانى والذى امتد لقرابة اربعة قرون وقد استنزف مواردها وعقولها، وضرب حولها سياجاً من العزلة وأسلمها إلى بيات فكرى، لتغرق فى غياهب التخلف والخرافة، حتى عرفت صدمة التنوير مع ارهاصات القرن التاسع عشر مع الحملة الفرنسية ثم تجربة محمد على المتفردة. لم تكن مسيحية مصر بمنأى عن هذه التقلبات الحادة، وقد تحولت كنيستها إلى كنيسة أقلية، تخضع لمناخات فكرية وثقافية مغايرة، لتتحصن بخطاب «حذر»، بفعل التربص الفكرى وفى العقود الأخيرة صار فى بعضه تربصاً وتحرشاً مادياً، وفى مواجهة موجات الإرساليات تنحى باتجاه الخطاب «الدفاعى» وبفعل الإنقطاعات المعرفية المتتالية، تأتى خطاباتها وقتها «مرتبكة»، تتبنى رؤى أخلاقية تفتقر للعمق اللاهوتى البنائى، ويمكن أن نسميه «خطاب الحد الأدنى»، وحتى عندما بدأت ارهاصات استنهاض الكنيسة، القبطية الأرثوذكسية، مع مطلع القرن العشرين، بتأسيس حركة مدارس الأحد، لم تكن لديها ما يدعمها من مرجعيات آبائية، متاحة، الأمر الذى انعكس على خطابها، حتى بدأت حركة الترجمة مع النصف الثانى من القرن العشرين، بمدارسها المختلفة، وصراعاتها ايضاً. اللافت أن جهود استرداد الخطاب البنائى اللاهوتى توقفت عند مرحلة «الإحياء الآبائى» واستغرقتها صراعات فرقها المتنابذة، حتى صارت «حراكاً سلفياً»، يفتقر إلى «عصرنة» الوعى اللاهوتى ليصل إلى مستهدفيه، من أجيال لم تعد محكومة بعلاقات تداعيات الثورة الصناعية، بل صارت فى مهب ريح اسيولة المعلوماتب وتوافرها وتضاربها كما اسلفنا. وتواجه قضايا حياتية وأزمات معاشة تبحث عن إجابات وحلول لا تملكها مدونات القرون المؤسِسة. ومن الدعائم التى تساند تجديد الخطاب المسيحى، فى مصر والآن، ما شهدته علوم الترجمة، وعلوم اللاهوت، والآباء، من تقدم وتطور مذهل، والمقاربات بين الكنائس، فى مؤسسات الحوار المسكونى، بعيداً عن تراكمات الصراعات التاريخية التى لم تكن كلها لاهوتية، بل زاحمتها مدخلات سياسية وثقافية، وقصور استيعاب مدلول المصطلحات الواحدة وقتها، بين اللاتينية واليونانية. الخطاب المسيحى يهدف إلى بناء إنسان سوى متكامل متفاعل مع كل ما ومن حوله، ليصل إلى ملء قامة المسيح، متأسياً بما علم به وترجمه حياتياً حتى بذل نفسه من أجل الإنتصار على الموت، فى عطاء بلا سقف، ومن خلاله يقدم حلاً حقيقياً لأزمته المعاشة، وينزع فتيل الكراهية التى صارت خبز يومنا. لذا فتجديد الخطاب المسيحى المصرى لم يعد مطلباً جدلياً، بل صار ضرورة حياتية. لكنه يحتاج إلى تأسيس فكرى جاد، يصدر عنه دستور إيمان معاصر مؤسس على الزخم اللاهوتى والخبرات المتراكمة، يحسم أمر القضايا العالقة، ويعيد ترتيب الحياة الكنسية اليومية، ويقنن العلاقات البينية فى منظوماتها، ومؤسساتها، وطقوسها، وممارساتها بوعى وموضوعية. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى ;