اقتحمتنا السياسة حتى صارت الإجابات تسبق الأسئلة، وكادت تتحول إلى إجابات معلبة، فعندما تطرح قضية تجديد الخطاب الدينى ينسحب المعنى إلى الخطاب الإسلامى، بعد أن تحول عند كثيرين إلى منبر إعلامى سياسى موازٍ، وبعد أن غازلته السياسة صار أقصر الطرق إلى الشعبوية شهرة ومردوداً ومنافع تترجم إلى أرقام وأرصدة، وقد يقفز بالبعض إلى شاشات الفضائيات. ولم يفكر أحد فى السؤال عن الخطاب الدينى القبطى، ربما لافتقاره لعناصر الجذب إعلامياً، فلا سياسة ولا إثارة، وهو منزوٍ خلف جدران الكنائس، ودوائره تحلق بعيداً عن الهم اليومى وفق معايير تحاول أن تفرض نفسها وتخلط الأوراق. وقد يُحسب له أنه بمنأى عن السياسة وشغب صراعاتها والخروج عن مقتضى دوره وفق معطيات وظيفته، لكن هذا لا يعنى أنه يؤدى دوره ويحقق المرتجى منه، فالمسيحية هى رسالة إعادة صياغة الإنسان بعد أن تشوَّه بالعصيان، وسعيها أن ترد له إنسانيته، ويتحمل الخطاب الدينى فيها مسئولية بيان التصالح الإلهى الإنسانى، فهل نجح الخطاب القبطى فى هذا؟ لا يمكن عزل المناخ السائد وتأثيراته على محتوى وأداء هذا الخطاب، وفيه تحصنت الكنيسة بالمنهج الدفاعى وأقامت حصوناً تمترست خلفها لتحمى منظومتها الفكرية الإيمانية واللاهوتية ثم لتحمى كيانها ووجودها نفسه، فكان التقوقع والانعزال المجتمعى، وطغى البعد الأخروى الميتافيزيقى على البعد الحياتى المعيش. وشهدت الكنيسة بعض المحاولات الجادة للتواصل المعرفى، لكنها كانت فردية تفتقر للقواعد العلمية، فجاءت بنتائج متباينة واعتمدت فى بعضها على مراجع غير مدققة أسهمت فى بلبلة الواقع الكنسى فى مناخ ثقافى ومجتمعى عام متراجع، وتحول الأمر فى جزء منه إلى صراع مصالح مشخصنة، انعكست على المنظومة التعليمية ومنتجها فى كوادر المعلمين وأطروحاتهم الفكرية. ولو أن الأمر يقتصر على أداءات الخطاب وتأثيراته على المجتمع القبطى الكنسى، لكان تصحيحه شأناً خاصاً يُطرح فى الأروقة الكنسية وفى فعالياتها الثقافية، لكننى أرى أن مردوده يطال البنية المجتمعية المصرية كلها، فعندما تنجح الكنيسة فى إعادة تشكيل الذهنية القبطية وتأسيسها على منظومة القيم المسيحية التى تتمحور فى بناء إنسان سوىّ يتحقق فيه وبه البذل حتى أقصى درجاته؛ بذل الذات عن الآخرين أسوة بفعل المسيح ذاته، ويترجم هذا فى العطاء والتسامح والحب المجرد والإيثار، وهى كلها تداعيات لفعل الفداء الذى يشكل حجر الزاوية فى البناء الإيمانى المسيحى. ووفق قانون الفعل ورد الفعل ستسود وتنتشر هذه القيم مجتمعياً لتحل محل ثقافة الكراهية التى يسعى البعض لزرعها ورعايتها لتدمير الوطن بجملته. ولن يتوقف الأمر عند مجرد العلاقات الفردية، فترجمة العطاء والخروج من الذات إلى الآخر سيترجم فى إحياء العمل العام الخيرى؛ مدرسة، مستشفى، دار إيواء. وغير بعيد ما شهدته مصر فى هذا الإطار فى القرنين التاسع عشر والعشرين من دور بارز للجمعيات الأهلية المصرية ومنشآتها الخدمية فى تنمية ودعم واستقرار المجتمع. والكنيسة تحتاج إلى الخروج من خطاب المناظرة الدفاعى إلى خطاب التكامل الإيجابى، واستدعاء خبرات معيشة سنتعرض لبعضها فى مقبل المقالات، منها المجمع الفاتيكانى الثانى، ولاهوت التحرير.