أخيرا وبعد طول انتظار بدأت مفاوضات «البريكست» لإطلاق الخروج الرسمى للمملكة المتحدة من عضوية الإتحاد الأوروبى بعد نحو عام كامل من تصويت البريطانيين لصالح خيار المغادرة. وبين التصويت ب»نعم» فى يونيو 2016 والبدء الرسمى لمفاوضات الخروج يوم الإثنين 19 يونيو فى بروكسل، تبدلت أحوال كثيرة ومعها موازين القوى على الصعيدين البريطانى والأوروبي، وباتت هذه التبدلات موجها رئيسيا لمجريات التفاوض، وإن لم تحسم سؤال الساعة إن كان «البريكست» سيكون عسيرا باندفاع بريطانى وانفصال تام عن الأطر التشريعية والمؤسسية للاتحاد الأوروبي، أو يسيرا يبقى على بعض أسس الشراكة القديمة بين الجانبين. المقصود بذلك أن ديفيد دافيز وزير شئون «البريكست» لدى الحكومة البريطانية أكد فى ختام أولى أولى جلسات التفاوض استبعاد فكرة البريكست» اليسير»، مؤكدا ضرورة استعادة المملكة المتحدة للسيطرة على حدودها، لكن المؤشرات أغلبها ترجح تراجعا واضحا لخيار الخروج العسير، كما يتضح مبدئيا من اتفاق الجانبين البريطانى والأوروبى حول صيغة استفتاح التفاوض. ففيما يخص المضمون، جاءت الأولوية لبحث وحسم القضايا الخلافية الكبرى قبل الانتقال إلى مناقشة أطر التعاون البديلة والمستقبلية بين الجانبين مثل التأسيس لاتفاق تحرير المعاملات التجارية، وتتضمن قائمة قضايا الاستفتاح كلا من التعامل مع الفاتورة الخلافية للخروج البريطانى من الاتحاد والتى تقدر بنحو مائة مليار يورو أو 112 مليار دولار أمريكي، والوضعية القانونية والحقوق الأساسية لمواطنى الاتحاد الأوروبى المقيمين فى المملكة المتحدة والمقدرين بنحو 3,2 مليون نسمة، ومعهم البريطانيون المقيمون عبر مختلف دول الاتحاد ويبلغ إجمالى عددهم مليون نسمة. ويضاف إلى تلك القضايا، مصير الشريط الحدودى لإقليم آيرلندا الشمالية وكيفية ضمان حرية الحركة للأفراد ما بين الإقليم الواقع ضمن المملكة المتحدة والجمهورية الآيرلندية، بما قد يضمن استمرار بريطانيا ضمن السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركى الأوروبي، مما يعنى الإذعان البريطانى لصيغة «الخروج اليسير»، أو إغلاق الحدود إغلاقا مبرما يحمل مجازفة حول استمرارية الإقليم الآيرلندى ومعه إقليم أسكتلندا المملكة المتحدة. وجاء الإطار الزمنى مكثفا يعكس عبء المهمة بحيث تجرى مفاوضات شهرية تبدأ 17 يوليو المقبل، ويفترض أن تنتهى قبيل نهاية 2017 بحسم القضايا الخلافية قبيل الانتقال إلى مناقشة الاتفاقية الثنائية لتحرير التجارة وغيرها من توافقات تنظيم العلاقة مستقبلا، على أن يكن إتمام النسخة النهائية من الاتفاق بحلول أكتوبر 2018، بما يتيح الفرصة أمام اعتماد جميع دول الاتحاد ال27 من جانب والبرلمان البريطانى من جانب آخر للاتفاق بحيث يتم الخروج البريطانى نهائيا ورسميا فى موعد انتهاء فترة التفاوض القانونية والمحددة بعامين آخرهما مارس 2019. ويلاحظ أن مجرد ترتيب مسار المفاوضات ومضمونها يعكس تراجعا واضحا للتوجه التشددى الذى اعتمدته تيريزا ماى منذ توليها زعامة الحزب المحافظ ورئاسة الوزراء خلفا لديفيد كاميرون فى يونيو 2016، والذى كان يمهد أساسا للتوازى بين حسم القضايا الخلافية وبحث اتفاقيات تحديد العلاقة مستقبلا، ويثير هذا وحده كثيرا من الشكوك حول تأكيدات ديفيز عن الإصرار على خروج «عسير» بالاستغناء التام عن الاتحاد الأوروبي. كما أن التحولات السياسية الداخلية فى بريطانيا ترجح أيضا خروجا أقل عسرا مما مهدت له خطابات وتحركات تيريزا ماى الأولى، وبخاصة عقب فشل مقامرتها السياسية وخسارة الأغلبية البرلمانية المحدودة إثر انتخابات 8 يونيو العامة. ماى سبقت ديفيز بالتأكيد - ردا على تصريحات فرنسية وألمانية بأن باب الاتحاد الأوروبى ما زال مفتوحا أمام بقاء المملكة المتحدة عقب انتخابات يونيو – على أنه لا بديل عن المضى قدما فى تنفيذ إرادة الناخب البريطانى وتحقيق خروج «عسير» وحاسم من الاتحاد، لكن مجرد طرح الاتحاد الديمقراطى كحليف أساسى أمام المحافظين ينذر بالكثير من اليسر، خاصة وأنه لن يقبل إلا صيغة تكفل تواصلا وحرية فى الحركة مع آيرلندا، مما يعيد طرح احتمالية البقاء ضمن الاتحاد الجمركى واستمرار العمل بمبدأ حرية الانتقال بين الأراضى البريطانية وباقى دول الاتحاد، كما أن الانتخابات ونتائجها جعلت اليد العليا فيما يخص قرارات البريكست فى أيدى مجلس العموم بقواه المختلفة. ثم إن تصويت 8 يونيو كشف عن احتجاج شعبى على سياسات ماى والمحافظين إجمالا وتحديدا فيما يخص الخروج العسر وتصريحات ماى المتكررة بأن «الخروج بدون اتفاق، أفضل من الخروج وفقا لاتفاق سيء». كما أن إرث المحافظين ومصيره يعد على حفا جرف منهار ففشل ماى فى حسم اتفاقية القرن مع الاتحاد الأوروبى واستمرار تراجع شعبية حكومتها قد ينتهى إلى الاختيار المر بإجراء انتخابات عامة، وأيا كانت نتيجتها ستكون فى غير صالح المحافظين وإرباكا حول توجه بريطانيا إزاء البريكست، فحتى فى حالة فوز العمال «المتوقعة» ومع استبعاده إجراء استفتاء ثانى حول البريكست، فإن استمرار التفاوض وفقا للرؤية ذاتها مستبعدا أيضا. الاتحاد الأوروبى من جانبه يلتزم منذ إعلان نتائج الاستفتاء البريطانى بموقف ثابت ومتماسك مفاده أن التجمع سيبقى قويا، وأن المملكة المتحدة لن تنال خروجا «يسيرا» يحقق لها الحسنيين من فوائد الشراكة مع الاتحاد بدون ضريبة «حرية انتقال الأفراد» وغير ذلك من مواطن الاعتراض البريطاني.. وزاد من الثقة الأوروبية التراجع المؤقت فى صعود التيار اليمينى المتطرف بتولى إيمانويل ماكرون رئاسة فرنسا ودفعه بمشروع إصلاحى وداعم للاتحاد الأوروبي. ميشيل بارنيير مفوض الاتحاد الأوروبى لشئون البريكست أوجز المسألة عندما قال ردا على ما إذا كان مستعدا لتوجها يسيرا فى إدارة المفاوضات «إن بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبى وليس العكس».