يمتلئ شهر رمضان الكريم بشتى ألوان البهجة الروحية والوجدانية، وترتبط هذه الأنواع بالبهجة النفسية التى يمكن أن يضفيها على مشاعرنا الاقتراب من الفن، والاستجابة إلى الفنون بوجه عام، خصوصًا ما يدعو منها إلى صفاء النفس والروح، والتخلص من أدران الجسد وغوايات الحياة الدنيا التي تخايلنا بشراكها العديدة. وقد تمتعت بشىء من هذه البهجة عندما قبلت دعوة تلميذتى رشا عبدالمنعم لحضور عرض «قواعد العشق الأربعون» عن رواية الكاتبة الشهيرة «إليف شافاق»، وهى روائية تركية تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وقد تُرجمت أعمالها إلى ما يزيد على ثلاثين لغة. وقد بدأت شهرتها الواسعة برواية «قواعد العشق الأربعون» التى نشرتها سنة2010. ومنذ ذلك العام وإليف شافاق تتزايد شهرتها وتتسع، خصوصًا أن روايتها تتحدث عن حالة عشق روحى، أو عن حالة حب حقيقى، يجمع ما بين البشر مثلما جمع بين شمس الدين التبريزى وجلال الدين الرومى الشاعر الفارسى الأشهر، وهو الشاعر الذى التفت العالم أخيرًا إلى رائعته الشعرية «المثنوى»، وهى العمل الأساسى الذى ترجمه المركز القومي للترجمة فى بداية إصداراته، وهذا قبل أن يحتفل العالم كله بعد ذلك بمرور سبعمائة سنة على ولادة جلال الدين الرومى؛ مؤلِّف «المثنوى». ولكن ما أريد الحديث عنه ليس «المثنوى»، وإنما الرواية التى كتبتها إليف شافاق عن مثنوى جلال الدين الرومى وتلميذه الروحى شمس الدين التبريزى، أعنى الرواية التى أطلقت عليها «قواعد العشق الأربعون»، والتى حققت بكتابتها من النجاح والشهرة ما لم يتحقق لغيرها من الكتاب الذين حاولوا الكتابة فى الموضوع نفسه، وهو موضوع الحب الصوفى أو «العشق» إذا أردنا الاحتفاظ بالاصطلاح الصوفى نفسه. ومن المؤكد أن تلميذتى العزيزة رشا عبدالمنعم قد أعجبت بالرواية وتأثرت بما أصدره المركز القومى للترجمة من كتاب «المثنوى» بأجزائه الستة، وهو الكتاب الذى يعد درة إبداع جلال الدين الرومى، ثم جاءت رواية إليف شافاق لتضرم فى وجدانها إحساسًا مجددًا بأهمية الحب الروحى فى هذه الحياة المليئة بالعنف والإرهاب الذى نراه فى كل مكان حولنا، ويبدو أنها استجابت – دون أن تدرى- إلى تيار يتنامى حولنا، وهو تيار يؤكد أهمية الحب الروحى الذي ينبغى إحياءه فى نفوسنا وتجديد حضوره فى أرواحنا، وذلك لمقاومة تيارات العنف والإرهاب التي تموج بها الحياة من حولنا، فتبدو كما لو كان المقصود بها هو استئصال بذرة الحب وجذوره من أنفسنا وأرواحنا بل حضورنا نفسه. ومن المؤكد كذلك أن هناك تيارًا يتشكل على نطاق واسع ما بين الغرب والشرق ينادى بدفع مفاهيم الحب الصوفية إلى الأمام لكى تصبح فى الصدارة التى يمكن أن تتصدى بها الإنسانية فى مواجهة تيارات العنف والإرهاب بنقيضها، وهى تيارات كره وحقد وغل، لكى تقوى تيارات الحب فتنتصر على تيارات الكره، وتشتد تيارات التسامح لكى تغلب تيارات التعصب؛ فتعلو بذلك تيارات العشق الصوفى بما يجعلها دروع مقاومة نتدرع بها فى مواجهة تيارات الغل التى أصبحت سارية فى حياتنا، تتخلل وجودنا فى كل شأن من شؤون حياتنا. وهذه باختصار شديد الفكرة الرئيسة التى اجتمعت عليها أفكار مجموعة من الشباب الذين يعشقون المسرح، ويرون فيه أملًا يسهم فى إضفاء مسحة من الكمال والجمال تلطف حياتنا الخشنة القاسية، فاجتمعوا مع رشا عبدالمنعم وأقاموا ورشة للكتابة أخرجت لنا نصًّا دراميًّا حديثًا يخاطبنا بالكلمة والنغمة واللون، وكانت النتيجة عملًا يعرضه (المسرح الحديث) على خشبة مسرح السلام بعنوان «قواعد العشق ال (40)، وقد أسعدتنى رشا عبد المنعم بدعوتى مع زملائها، فاستجبت إلى دعوتها. وأسعدنى الحظ بالذهاب فى صحبة زميلتى الدكتورة هالة فؤاد أستاذ التصوف فى آداب القاهرة والأستاذ نبيل عبد الفتاح الباحث والكاتب المرموق بمؤسسة الأهرام. وكان أول ما لفت نظرنا- تحت العنوان الكبير البارز على الجدار الخارجى للمسرح - الإشارة إلى أن العمل الدرامى مأخوذ عن رواية الكاتبة إليف شافاق، والعرض من إخراج عادل حسان، الذى يكتب فى البروشور الذى يوزع على الجمهور قائلًا: «إن السعى وراء الحب يُغيرنا، فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته، وما أن تبدأ رحلة البحث عن الحب، حتى نتغير من الداخل والخارج». والعبارة مأخوذة بالطبع من إحدى وصايا «قواعد العشق الأربعون»، لكنها بالغة الدلالة فى إضاءة معنى العرض كله، فالسعى وراء الحب ليس هدفًا فرديًّا، وإنما هو هدف جمعى يشمل الإنسانية كلها؛ فمن المؤكد أن سعى الإنسانية كلها وراء الحب لا بد أن يغيرها، وأن ينقلها من حال أدنى إلى حال أعلى، وأن رحلة البحث عن الحب نفسها هى رحلة بحث عن الكمال والجمال وهى غاية فى ذاتها؛ فليس المهم فى هذه الرحلة هو نقطة الوصول، وإنما هو السفر فى ذاته. فالسفر تحول وتغير وتبدل للأحوال الإنسانية من الداخل والخارج معًا، فكلما مضى الإنسان أو مضت الإنسانية فى هذا السفر تغيرت من حال إلى حال، وتقلبت ما بين هيئة وهيئة، وصَفَتْ إلى أن تَشِفَّ تمامًا فتصبح كالجوهر الصافى الذى يضىء لمن حوله الطريق مجددًا معنى الوجود ومحددًا الغاية النهائية من الحياة، وهى الغاية من الحضور فى الوجود بمعنى الفاعلية التى تشيع مبدأىّ السلام والأمن فيه، مقترنين بقيم الحق والخير والجمال. وكشأن كل كتابة درامية ينبنى العمل على نقيضين؛ أولهما: الحب المتجسد فى العلاقة التي تصل بين جلال الدين الرومى وشمس الدين التبريزى، وهى علاقة ملتبسة لا نعرف فيها مَن التلميذ؟ ومَن الأستاذ؟ فالأبرز فيها هو سعى النفوس إلى الكمال الذى لا يضيء كل الضوء إلا بالوصول إلى أقصى درجات الحب الإلهي الذى ينعكس على العلاقة بالبشر أو بالحياة بوجه عام، ووسيلته فى ذلك هى الباطن لا الظاهر والرؤيا لا الرؤية، وفهم الباطن أو المضمر في الكلام لا فهم الظاهر الذى يوقف العقل عند سطحه الخشن. وأما الوجه الثانى، فهو النقيض الذي يبدأ من الرؤية لا الرؤيا، ومن المعاني الحرفية لا المجازية، ومن المنطق لا الحدس، ومن التجربة الحسية الجاسية والخشنة لا التجربة الروحية الشفيفة والرهيفة. ولذلك فالعلاقة بين النقيضين هى علاقة بين ضدين لا إمكان للاتفاق بينهما، على الأقل في هذه المسرحية؛ فهناك خطاب الروح التى تفيض بالمحبة ونسمعها شعرًا يُغنى مع الموسيقى والألحان لأشعار ابن الفارض والحلاج وابن عربى ورابعة العدوية والبسطامى وغيرهم من شعراء المتصوفة فى مقابل خطاب أهل الظاهر الذين لا يمعنون النظر ولا يأخذون من الأمور إلا الواضح الذى لا اختلاف فيه، وهؤلاء قادرون على اختزال كل شىء في بُعد واحد ومعنى واحد ولون واحد وصوت واحد. وهكذا يكون الخلاف بين النقيضين خلافًا بين التعددية والتنوع وحق الاختلاف مقابل الإصرار على وحدة المعنى والمغزى وعدم مفارقة الظاهر إلى غيره من الباطن أو البواطن، والإصرار على المعنى الجامد جمود الصخر أو المفرد الذى لا يقبل الجمع أو القسمة أو حتى التحول. ولكن المسرحية لا تؤدى معنى هذا التعارض على نحو تجريدى بلغة تقريرية مباشرة، وإنما تؤديه موسيقى وألحانًا، يضعها الدكتور محمد حسنى، وديكورًا مبدعًا فاتنًا من إبداع مصطفى حامد، وأزياء مبهرة من تصميم مها عبدالرحمن، وإضاءة معبرة من تشكيل إبراهيم الفرن، ومع ذلك كله فرقة المولوية العربية التى يمثلها على طه ووليد عبدالعزيز. ويقود هؤلاء جميعًا المخرج المنفذ حازم الكفراوى الذى يتحرك بين الكواليس كالنحلة ليتأكد من أن العرض يسير في طريقه المرسوم ويؤدى غايته المرجوة. والحق أننى لا بد أن أشكر الجميع ابتداء من ابنتى رشا عبدالمنعم وانتهاء بأصغر واحد فى هذا الفريق الذى جعلنى أقضى ساعات ممتعة فى مشاهدة العرض والتفاعل معه دون ملل أو كلل. ولكننى كنت أشعر بأن هناك ما ينقص من كمال هذا العرض؛ فالعرض صوفي بمعنى أو بآخر، وهو دعوة إلى مقاومة الإرهاب الذى يزرع الكره فى النفوس بالحب الذى يؤسس لمعنى العشق الحقيقى الذي يدنينا من كمال الوجود؛ فاللغة شىء أساسى فى هذا العرض إلى أبعد حد خصوصًا أنها تتجاوب مع القصائد والأشعار لكبار المتصوفة. وللأسف، لم أسعد بالأداء اللغوي فى هذا العرض؛ فالأخطاء اللغوية كثيرة، وهناك بعض من ينطقون اللغة الفصحى كما لو كانوا خواجات يتهجونها وهى عليهم شاقة، أو كما لو كانوا أبناء لغة غيرها وحديثى عهد بها؛ ولذلك كنت ألعن فى نفسى انحدار التعليم فى المدارس والجامعات، خصوصًا تدريس اللغة العربية؛ فهو المسئول عن هذه اللغة العربية الشائهة التي كان يؤذينى الاستماع إليها. والحق أن مظاهر الجمال فى هذا العرض كان يفسده علىّ بين الحين والحين سوء النطق وعامية التلفظ بالفصيح الجليل، لكن للأسف كان يعوضنى جمال الديكور وانسياب الموسيقى. أما الشخصية الدرامية لشمس التبريزى فهى لم تقنعنى على المستوى الدرامى؛ ذلك لأن الأستاذ بهاء ثروت الذى كان يؤديها لم يكن على دراية كبيرة بجوهر الشخصية التى يؤديها وخصائصها الروحية، فتكوينه الجسدى وطريقة نطقه للألفاظ وعاداته الأدائية التى اكتسبها من السينما التجارية كانت تحول بينه وبين تجسيد الحضور الرهيف لشمس الدين التبريزى، ذلك الكيان الذي يشبه الحلاج أو السهروردى المقتول أو الجنيد أو غيرهم من الشخصيات الصوفية التي تحلق مع الخيال مذبذبة ما بين النار والنور؛ إما أن تنجو فيشدها النور، وإما أن تحرقها النار فتقضى على حضورها الذى لا يفارق جماله وجلاله وكماله فى آن. ولذلك اقتنعت بأداء عزت زين فى شخصية جلال الدين الرومى؛ فقد كان -تكوينًا ونطقًا وحركة- أقرب إلى شخص جلال الدين الرومي في حضوره الخيالى أو الدرامى، وبين هذين الطرفين يتوزع بقية الممثلين والممثلات الذين لا أنكر -ولا ينبغى لى أن أنكر- أننى بفضلهم قد استمتعت بسهرة جميلة من السهرات الرمضانية التى أرجو أن تتكرر فى حياتنا. ولا شك أن هذا العمل الفنى ينبغى أن يحسب لوزارة الثقافة وللبيت الفنى للمسرح بوجه عام، وللمسرح الحديث بوجه خاص. ولكن تبقى كلمة لا بد من لفت الانتباه إليها وهى خاصة بطبيعة مسرح السلام نفسه، فيبدو أن عمارة هذا المسرح بجدرانها تلك لا تتيح للصوت انسيابًا رائقًا. فقد كانت الأصوات تترجّع أصداؤها على نحو يفقدها صفاءها، وهو أمر لا يبعث على السرور، خصوصًا في نص يعتمد على اللغة الفصيحة ويمتلئ بأشعار تراثية عن العشق الصوفى. وهو أمر ينبغى أن يتداركه الفنيون المختصون بهذا المسرح فيما يتصل بفنية الأداء الصوتى ورجع الأصوات فيه. لكن هذا كله لا يمنع من الثناء على وزارة الثقافة لإنتاجها هذا العرض الدرامى الممتاز الذي يليق بشهر رمضان فى دولة مدنية ديموقراطية حديثة، تؤمن بالتنوع والتعدد وتعتمد على الاختلاف وعدم تقديس الصوت الواحد؛ فالصوت الواحد كارثى، والتعدد هو الحياة في مداها الفسيح. وأذكر أن هذا ما نبهتنا إليه زميلتنا الدكتورة هالة فؤاد ونحن خارجون من المسرح أنا وهى والأستاذ نبيل عبدالفتاح الذى شاركنا متعة مشاهدة العرض، وكان لا بد أن ننصت إليها أنا ونبيل؛ لأنها أكثر تخصصًا منا فى موضوع العرض، فهى أستاذة التصوف فى جامعة القاهرة؛ ولذلك انتبهنا إليها انتباهًا خاصًّا وهى تحدثنا عن أهمية استدعاء التراث الصوفى بوصفه الاحتمال الأكثر رقيًّا وإنسانية فى مواجهة التيارات الأصولية، لكونه يجلى أو يظهر معانى ديانة الحب والتسامح وقبول التعددية والاختلاف، وذلك بما يعنى تعدد الطرق إلى الحق بتعدد الخلائق، فالكل حق؛ لأن الحقيقة الإلهية ذاتها واحدة الجوهر متعددة الوجود والتجليات إلى ما لا نهاية، فالكل واحد. وقد نبهتنا الدكتورة هالة فؤاد إلى أن النماذج الأكثر إغواء للخيال الدرامي في هذا السياق الصوفى الفارس جلال الدين الرومى، فضلًا عن منابعه الحية الخلاقة عند الحلاج أو ابن الفارض، مرورًا بالسهروردي المقتول، وانتهاء بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي صاحب ديوانَى «ترجمان الأشواق» و «الديوان الكبير». وكان رأى صديقنا نبيل عبدالفتاح مقاربًا لرأى هالة فؤاد وموافقًا إياها، ولكنه كان أكثر سعادة بالعرض؛ ولذلك كان أقلنا نقدًا لما رأيناه بمثابة مثالب أو عيوب. وكان له إعجاب خاص بالموسيقى والإنشاد الغنائى لعدد من الأشعار المصاحبة للعرض. وقد أضافت هالة فؤاد إلى إعجابه بعض ما اكتسبته من تخصصها، وهو أن الانتقاءات النصية كانت ذات هوى حلاجى بامتياز. وكانت هذه ملاحظة تأويلية دالة على اهتمامها بما يسميه المختصون «الهرمنيوطيقا» أو علوم التأويل. ولا يمكن أن أترك ذلك الحوار الذى جرى بين زميلتى هالة فؤاد وزميلى نبيل عبدالفتاح دون أن أشير إلى موافقتها على نقد الممثل بهاء ثروت الذى قام بدور شمس التبريزى، فقد كانت ترى مثلى أن اختياره كان غير موفق؛ فلا الملامح الجسدية ولا طبيعة الوجه ونظرة العينين ملائمة لما كنا نراه من وجه شمس المعشوق القاهر، ناهيك عن أن الأداء الباهت لم يعوضنا عن فقدان الملامح التي اتسمت بها صورة شمس الذى ينطوى على تناقض حاد ما بين المظهر الكارزمى الآسر بحدته والرقة المدلهة العاشقة المعشوقة التي يتسم بها حضوره كما تتسم بها أقواله. ولقد ابتسمت مع إيماءة تشى بنوع من الموافقة على ملاحظة زميلتى المتحمسة للعرض والمعجبة به أيضًا. ولكنى لم أنقل عنها كل ما جادت علينا به من تحليلات متخصصة، فهذا يدخل فى باب الملكية الفكرية؛ ولذلك أكتفي بحثِّها على أن تكتب انطباعاتها وملاحظاتها حول العرض فى مقال خاص بها، فهى أكثرنا تخصصًا وعلمًا بالموضوع، أما أنا فكنت سعيدًا بتلميذتى رشا عبدالمنعم التي أشرفت على ورشة العمل التي أنتجت هذا العرض، والتي لم أملك سوى أن أهنئها على هذا العمل الذى جعلنى أفخر بأنها تلميذتى بحق، كما أفخر بكل بناتى وأبنائى الذين شاركوا فى العرض.