ميلاد نوارة كان حلم أبناء قريتها.. ومرحلة المخاض التي سبقت مولدها لم يعشها الأهل في انتظار صامت بل في عمل دؤوب من أجلها, استعدادا لخروجها إلي النور في أبهي صورة, أملا في أن تصبح تلك المولودة لسان حالهم وحال أطفالهم.. وبمجرد ميلادها استقبلوها بفرحة غامرة وحملوها بين أيديهم ليقدموها بكل الفخر إلي كل من يهمه أمر أبناء القرية المصرية.. فهي أول جريدة تنطق بلسانهم وتحمي أبناءهم من خطر الأمية. وحكاية نوارة هي البوابة التي دخلت منها ماما جميلة إلي عالم حكاياتها عن قريتها, لتروي من خلالها تجربة من أنجح تجارب الجمعيات الأهلية, وتحكي للأطفال قصصا وحواديت تحببهم في العلم, وتؤكد لهم بالتجربة قيمة التعليم والعمل ومخاطر التدخين وغيره, بعيدا عن النصائح المباشرة. وماما جميلة هي جميلة كامل عضو مجلس ادارة جمعية التنوير والتنمية بالفيوم, التي وثقت تجربتها في الجمعية في صورة مذكرات شخصية, وبررت اختيارها لتلك التجربة لتسطر بها مذكراتها اقتناعا منها بأن المذكرات تزداد قيمة لو كانت متصلة بالمجتمع. والتجربة لاتخصها وحدها كما تقول وانما تخص مجموعة من المؤسسين والقائمين بالعمل بالجمعية وكيف سعوا لتحقيق هدفهم المتمثل في تنوير الأطفال وأسرهم لأنهم الأجدر بالاهتمام. وتعود ماما جميلة إلي طفولتها وصباها لتستعيد ذكريات زياراتها للريف في صحبة والدها فتصف من خلالها حال الفلاحين في أعماق الريف المحرومين من معظم ضروريات الحياة من مبان وأثاث وثياب وخدمات ومن بينها التعليم, وكيف كان حرمانهم حافزا لتكوين جماعة أصدقاء القرية.. وتصل بذكرياتها إلي مرحلة الشباب واشتغالها بالصحافة, ولكنها أبدا لم تنس قريتها.. زاد انشغالها بهموم بلادها, وارتفاع نسبة الأمية بها, ولاحظت هي وزملاؤها أنه حتي من يحاول التمرد علي الأمية والفرار من أغلالها يرتد إليها مرة أخري, فأدركت جماعة أصدقاء القرية وجميلة واحدة منهم أن هناك ضرورة لوجود جريدة للمتحررين من الأمية, فكان ميلاد نوارة التي تخاطب أهل الريف بلغتهم, وتتناول اهتماماتهم, وتناقش مشاكلهم, بهدف عرضها علي المسئولين, ولتشجيع المتحررين من الأمية علي القراءة حتي لايرتدوا اليها والاهتمام بأطفال الريف والكشف عن مواهبهم وتنميتها, وحملوا العدد الأول منها إلي رئيس الهيئة العامة لمحو الأمية, ليؤكدوا له أهمية وجود جريدة للمتحررين من الأمية تكون صورها كثيرة وكلماتها قليلة. وكان صدور نوارة عام1997, هو أولي خطوات جميلة ورفاقها في مشوار العمل الاجتماعي في ريف بلدهم, حيث وافق رئيس الجهاز التنفيذي للهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار وقتها علي اصدار الهيئة لجريدة التنوير علي غرار نوارة وفتح مكتبة بالقرية باسم مكتبة ماما جميلة وعين لها من بين بنات القرية أمينة مكتبة ومدرسة أشغال, وتحت مظلة المكتبة تخرجت أول دفعة لتلاميذ محو الأمية عام98 ومعظمهم من السيدات والفتيات الصغيرات اللاتي كن يحضرن بصحبة أمهاتهن, ويحكين عن معارضة الرجال لتعليم البنات وغيرها من المشاكل التي نبهت لأهمية وجود جمعية لمساعدة أهل الريف. وكما تقول جميلة كامل في مذكراتها, كان من بين مؤسسيها عام2001 سعد كامل( مؤسس الثقافة الجماهيرية) وفاطمة المعدول وأمينة شفيق ولميس الراعي وكوثر الصفطي ود. عبلة جلال ود. حازم نصار وجمال كامل ونائلة كامل وجميلة كامل, وكان أهم أهدافها التعليم واصلاح المفاهيم الخاطئة في الريف, وكان محو الأمية في مقدمة اهتماماتهم, واستخدمت الجمعية كل وسائل التحفيز للتشجيع علي الانضمام لفصول محو الأمية, وعملت علي سد منافذ الأمية بعلاج المشكلة من أساسها, وذلك بمراقبة قيد الأطفال بالمدارس سنويا, ومتابعة حالات التسرب لمعرفة أسبابها والتغلب عليها.. وكانت فصول محو الأمية محل اهتمام أعضاء الجمعية فحرصوا علي أن تتوافق مواعيد الفصول مع ظروف النساء والفتيات وأيضا الأطفال الذين جذبتهم المكتبة, وكانت بالنسبة لهم مكانا يلتقون فيه ويقرأون الكتب, ويسمعون الحكايات التي كان أحبها إليهم تلك التي تحكي عن شخصيات مشاهير لهم جذور ريفية خاصة عندما تحكيها ماما جميلة التي تقول لهم من خلالها: أنتم أيضا سوف يكون لكم مستقبل عظيم لو قرأتم وتعمقتم في العلم. وتتسع أنشطة المكتبة لتشمل ورشا فنية للرسم علي الزجاج والخشب والفخار وصناعة القش ومسابقات في الحكي والمعلومات وعرض لعرائس الجوانتي وعروضا مسرحية معظمها من تأليف ماما جميلة, وندوات ولقاءات وحفلات لعرض أفلام الفيديو التي يدعمها قصر ثقافة الفيوم. وقد وجد اعضاء الجمعية أنهم يولون اهتماما كبيرا بثقافة الأطفال وغفلوا الاهتمام بصحتهم حيث يعاني معظمهم من سوء التغذية وانتشار الانيميا, فقرروا الاهتمام بتوعية الأمهات بأساليب التغذية الصحيحة من منتجات قريتهن. من جهة اخري وجدوا أن الأطفال يعملون بالزراعة ويتعرضون للمبيدات ولمخاطر العمل الأخري, كما أنهم عرضة للعدوي بالعديد من الأمراض, لذا كانت التوعية من الأهداف المهمة التي ركزوا عليها لتنوير طفل القرية والذي يتوقع منه أن يرتقي بجمال ونظافة قريته وأن يحرص علي التعليم ويحافظ علي المال العام, ولايسمح ببناء مساكن علي الأرض الزراعية, أو يلوث المياه وأن ينبذ الخرافات ولايؤمن إلا بالعلم وأن يضيف جديدا من الابتكارات والاختراعات بدلا من الاكتفاء بالاستهلاك, ويعرف منذ الصغر أهمية تنظيم الأسرة وخطر الزيادة السكانية. والمتوقع من طفل القرية لن يأتي من فراغ بل من خلال الاهتمام به وبمجتمعه وتوفير مصدر دخل لأسرته ليتحقق له مستوي معيشة معقول- كما تقول كاتبة المذكرات- من خلال مشروع صغير للأم يتلاءم مع البيئة التي يعيش فيها ويتناسب مع مهارات النساء بالقرية ومن أبرزها تربية البط والسجاد اليدوي وحياكة الملابس والمفروشات وتربية دود القز, وهي الأنشطة التي توفرها الجمعية التي لم يغفل أعضاؤها عن توجيه أموال الزكاه إلي ما يضمن حياة كريمة للفقراء بإعطائهم جاموسة عشر( في انتظار ولادة عجل) وتنتقل ماما جميلة من مشروع الي مشروع لتملأ صفحات مذكراتها بتفاصيل خطوات مشروعات الجمعية وتحولها إلي دليل لكل راغب في دخول مجال التنمية أو العمل الاجتماعي والتطوعي, مدعمة كلماتها بصور تؤكد فرحة أهل القرية بعطاء أبنائها الذين أصبحوا رموزا في المجتمع ولكنهم لم ينسوهم يوما رغم انشغالهم بأعمالهم وأعبائهم. وفي غمرة انشغالها بأعماق الريف نسيت ماما جميلة أنها تكتب مذكراتها, أي أنها هي البطلة, فلم تتحدث عن نفسها إلا في سطور قليلة, وبكلمات بسيطة علي استحياء, وذكرت القليل فقط مثل تكريم قصر ثقافة الفيوم لها في العيد القومي للفيوم عام2009, ومؤتمر أدباء الفيوم, وأنها كانت زوجة الناقد الكبير الراحل الدكتور علي الراعي, وأنها كاتبة وأديبة, وسبق أن تولت رئاسة تحرير مجلة سمير ولها العديد من الكتابات للأطفال والتي تحولت إلي مسرحيات حققت نجاحا مشهودا له.