هنا يخشع الحجر , ويهمس حانيا بالدعاء كل أثر , وتضئ المشكاوات سماء القلوب المقفرة , هنا تتنسم عطر الأحبة , وتنفتح لك الأبواب الثقيلة المزدانة بالنقوش على مصراعيها لكى تضمك .. تحتويك .. أقبل .. لا تخف .. إله رحيم ينتظرك .. لا توصد عنده الأبواب .. لا لوم هنا ولا عتاب .. فقط محبة تدوم. هنا اخضرار رحيب فيه تغوص .. وفيك يغوص , حديد المقصورة يحول ولا يحول , يلين بين يديك كقلب عطوف. هنا يذوب العصاة مع العابدين , وذوو الحاجات مع الزاهدين , يلوذون بمن بيده ملكوت كل شئ , يسألونه بفضل محبته لحفيدة حبيبه أن يستجيب , فلا يرد منهم أحدا وقد خاب مسعاه .. فأحسن طهارة قلبك , وأخلص النية , وسلم الأمر لمن بيده ملكوت كل شئ .. واسجد واقترب. هنا تحنو الجدران العالية على المساكين , وتحمل الأعمدة البيضاء الشاهقة هموم المهمومين , وتبرد على الأرض الرخام أشواق المحبين , فلا يخرج من هنا مريض الروح إلا وقد برأ , ولا يفارق مضطرب القلب موقعه إلا وقد هدأ. هنا مرقد السيدة نفيسة بنت حسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين, والتى اشتهرت ب «نفيسة العلم» , و«أم المساكين» لعطفها عليهم, و «نفيسة المصريين» لتعلقهم الشديد بها, و«كريمة الدارين» لاتصال نسبها من جهة الأب بالإمام الحسن , ومن جهة الزوج بالإمام الحسين , أو ربما المقصود دار الميلاد «مكة» ودار النشأة «المدينة». ............................................................. ويقع مسجد السيدة نفيسة فى المنطقة المسماة قديما «درب السباع», وذكر المقريزى فى خططه أن والى مصر من قبل الدولة العباسية عبيد الله بن السرى هو أول من بنى على قبرها , وجعل لها ضريحا, ثم أعيد بناء الضريح وترميمه فى العهد الفاطمى , وفى عام714 هجرية أمر الناصر محمد بن قلاوون بإنشاء مسجد بجوار المشهد , ثم قام الأمير العثمانى عبدالرحمن كتخدا بتوسعته وترميمه وتطويره فى 1173 هجرية , ثم أكمل الخديوى عباس التطوير والتحديث وإعادة البناء للمسجد والضريح والمقصورة فى 1314 هجرية. ويتميز ضريح السيدة نفيسة عما سواه من أضرحة آل البيت «الكبار» فى مصر , بكونه يضم – يقينا- جسدها الطاهر , دون الالتباسات أو الشكوك أو المزاعم التى طالت غيره من الأضرحة والمقامات الشهيرة كضريح الإمام الحسين أو السيدة زينب أو السيدة سكينة ... وغيرهم , فسيرة السيدة نفيسة فى مكةوالمدينة معلومة , وتاريخ قدومها لمصر موثق , ومكان إقامتها فيها معروف ,ومواقفها مع ولاتها وحكامها وعلمائها مدونة فى كتب التاريخ والتراجم المعروفة. نفيسة الصغري لما كان يوم الأربعاء الموافق 11 من ربيع الأول عام 145 هجرية أشرقت الأرض بنور ربها , وأضاءت سماء آل بيت النبوة شمس جديدة .. إنها نفيسة الصغرى , التى حملت اسم عمتها فميزوها عنها ب «الصغري» , فكانت أكبر أثرا , وأعلى سهما , وأبقى علما حتى اشتهرت ب «نفيسة العلم». كان الميلاد فى مكة .. خير بقاع الأرض , ثم قضت طفولتها منذ سن الخامسة , وسنين شبابها فى رحاب مدينة رسول الله حيث عطر الحبيب مازال يسرى , وأثر أصحابه وأحبابه وآل بيته مازال مرسوما على وجوه أبنائهم والحفدة , فتلقت العلم فى مسجده الشريف , وحفظت الكتاب , ودرست على أيدى علماء المدينة وغيرهم من روادها. فلما بلغت سن الشباب تقدم لها إسحق المؤتمن بن جعفر الصادق حفيد الإمام الحسين ,فتم الزواج فى شهر رجب من عام 161 هجرية , قبل أن تنتقل معه لاحقا إلى مصر ليصبح لها فيها شأن آخر , فلماذا غادرت المدينة ؟ .. ولماذا اختارت مصر؟ .. ولماذا رفض الأب كل من تقدم لها من شباب آل البيت قبل أن يقبل بإسحق المؤتمن الذى حملها إلى مصر لاحقا وفارقت معه الأهل والمدينة؟ .. أسئلة عديدة لا مرد فى إجابتها لسواه .. هو الله الذى اختار فلا معقب لأمره , اختارها – بعظيم فضله علينا – لمصر , واختار – بواسع علمه بمحبتنا لآل البيت – مصر لها. وكان قدوم السيدة نفيسة إلى مصر فى شهر رمضان من عام 193 للهجرة , حيث استقبلها المصريون استقبالا مهيبا منذ وطأت قدمها أرض العريش حتى وصلت إلى مدينة الفسطاط , وتوافد الناس عليها يطلبون العلم والحديث , وينشدون البركة وفيوض الكرامات , ويتنعمون بمطالعة أثر النبى صلى الله عليه وسلم فى خلق وخلقة حفيدته الشريفة , وازداد تكالبهم على دار أم هانئ التى نزلت بها, حتى خشيت أن يشغلها لقاء الناس عن عبادتها وأورادها , فخرجت على الناس قائلة : «كنت قد اعتزمت المقام عندكم , غير أنى امرأة ضعيفة , وقد تكاثر الناس حولى , فشغلونى عن أورادى وجمع زاد ميعادى , وقد زاد حنينى إلى روضة جدي» , ففزع الناس لقولها ,وخرج الألوف يناشدونها البقاء ويتوسلون بزوجها لتقبل البقاء بينهم , حتى تدخل الوالى فوهبها دارا أرحب لا تضيق بزوارها , واتفق معها على تخصيص يومين أسبوعيا للزيارة , فلا تمنع الناس علمها , ولا تضن عليهم بفضلها , وتحفظ لنفسها فى الوقت ذاته حظها من العبادة والقربى لربها , حيث كانت سيرتها فى الطاعة والمجاهدة نموذجا يتبعه العابدون , ويتحرى أثره العارفون , وليس أدل على ذلك من قول زينب بنت أخيها يحيى المتوج ,والتى كانت منقطعة لخدمتها: «خدمت عمتى أربعين عاما فما رأيتها نامت بليل , ولا أفطرت بنهار إلا فى العيدين وأيام التشريق» نفيسة العلم لم تنقض إلا خمس سنين منذ قدوم السيدة نفيسة إلى مصر حتى أفاض الله على المحروسة بنور جديد , حيث وفد الإمام الشافعى إلى مصر فى عام 198 للهجرة, ليتزامن مقامه بها مع مقامها الكريم , فلزمها الإمام الفقيه , وواظب على زيارتها لينهل من علمها , ويأخذ عنها الفقه والحديث , يقرأ عليها ويسألها فيما يستغلق عليه, فكان يمر عليها وهو فى طريقه إلى حلقات درسه فى مسجد الفسطاط , وفى طريق عودته إلى داره , وكان يصلى بها التراويح فى بيتها بعد عودته من المسجد , ولا يكف أن يسألها الدعاء كلما التقاها , أو كلما ألم به عارض من مرض أو شدة , وبلغ من محبته لها وتقديره لمكانتها أن أوصى قبل مماته أن تصلى عليه حين وفاته , فلما صعدت روحه إلى بارئها فى 204 هجريا , مر المشيعون بجنازته على دارها لتصلى عليه كما أوصى .. ففعلت, فمن كنفيسة والشافعى مصل أو مصلى عليه؟ نفيسة المصريين مرت سنون تلتها سنون , فى أرض مصر الطيبة , التى يدخلها البشر – إن شاء الله – آمنين , كبر الجسد ووهن العظم , واشتاق المحب للقاء حبيبه , فبدا ما كان بعيدا يقترب , وما بقى القلب يخشاه غدا إليه ينقلب , وزاد الدعاء بشربة ماء من يد النبى , والنظر إلى وجه الله الكريم , وبجعل القبر روضة من رياض الجنة , فحفرته بيديها الطاهرتين فى صحن دارها , وظلت تهبط فيه ليالى تلو أخرى, تقرأ القرآن وتدمع من خشية الله , حتى ختمت آياته ما يزيد على المائة مرة , وما إن هل شهر رجب من عام 208 للهجرة حتى بدأ المرض يتسلل إلى جسدها الطاهر رويدا رويدا , هذا الذى أنهكته الطاعة فخف , وغمرته المحبة فشف , لتحلق روحها إلى مستقرها ومستودعها فى رمضان من العام ذاته , جافة الحلق من أثر الصيام, رطبته بذكر الله , فقد لقيت وجه ربها صائمة بعدما رفضت نصائح الأطباء بالإفطار , حيث قالت: «وا عجبا .. إن لى ثلاثين سنة وأنا أسأل الله أن يتوفانى صائمة .. أفأفطر الآن؟» , وقيل أنها قبضت وهى تقرأ القرآن , حتى إذا وصلت إلى آية ( لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ) (الأنعام – 127) .. طوت مصحفها , واستقبلت قبلتها , ونطقت شهادتها , لتدفن فى القبر الذى أعدته بيديها , وطهرته بقراءتها , بعد أن رفض المصريون طلب زوجها بنقلها إلى المدينة لتدفن بالبقيع , وألحوا عليه فى بقائها بينهم حتى استجاب , ليظل مدفنها فى موقعه الحالى بقلب القاهرة .. وتظل هى كما كانت دوما , فى موقعها الحالى بقلوب المصريين.